قاهر الظلام .
الصورة في عام 1981م: (وليد عبد الكريم إسماعيل الأعظمي1941-1988) وشهرته (وليد الأعمي) في الوسط وأمامه ولده خالد وعلى يمينه إبن أخته وربيبه هيثم الذي مات في عز شبابه مصعوقاً بالكهرباء عام 2007 والثاني على يمينه فؤاد وأمامه أخيه إبراهيم وعلى يساره إسماعيل ضياء . في الورشة بمنزله خلف حديقة الرحبي .
المقال : عندما رأيته عرفت كفاح الإنسان الذي لا يفقد الأمل ، ويعيش بسعادة بالرغم من فقدانه نعمة البصر . يكلمك بفرح ويلقي عليك النكات في زمن يتعامل فيه المبصرين بسوداوية مع الأشياء ، مرح طيب القلب . فمنذ البداية تعود الإعتماد على نفسه وعدم إنتظار المعونة من أحد . بصير ومصلح غسالات ناجح ، بل وحتى التلفزيونات أحياناً . يشتري قطع الغيار على دراجته الهوائية ولا يخاف الشوارع المزدحمة ، يختزن في رأسه آلاف الأرقام التلفونية . معظماوي من بيت إكْرَيِّمْ المَرّار ، و (المَرّار) مهنة عامل البناء الذي يقوم بتهديم البيوت وتنظيف الطابوق من الجص والإسمنت . متزوج من السيدة جنينه أم خالد إبنة (الملّه عبد الله محمود الأفغاني) معلم القرآن الشهير في منطقة الحارة بالأعظمية ، وجدّها هو (جمال الدين الأفغاني 1838-1897) أحد أعلام التجديد في عصر النهضة العربية والإسلامية الحديثة. إلتقت به مجلة الرائد الكويتية في العدد 336 لعام 1977 فقال :- لقد فقدت بصري بعد إنقضاء ستة أشهر على ولادتي إذ إجتاح العراق آنذاك مرض خطير يصيب العيون (التراخوما المزمن) ولم يكن الحال كما هو عليه الآن فلا أطباء أخصائيين ولا مستشفيات مجانية بل كان هناك طبيب عيون واحد كما تخبرني والدتي كان إنگليزياً وكان المرضى يقصدونه بالمئات إن لم نقل بالألوف وهذا ماجعل أهلي يعالجونني بوسائل الطب الشعبي التي أدت الى تعتيم عيني . لقد منحني الله سبحانه وتعالى ذاكرة قوية جداً ، كما منحني حاسة لمس غير طبيعية ولا أواجه في ممارسة مهنتي أية صعوبة أو إرهاق . دخلت مدرسة المكفوفين وتعلمت فيها مهنة حياكة الخيزران ، لكنها مهنة متعبة وغير مجزية ، وخلال تواجدي في هذه المدرسة وكنت لا أزال صغيراً ، بدأت أشتري الأجهزة الكهربائية القديمة وأفككها وأعيد تركيبها بعد أن أجري عليها بعض التجارب التي تفيدني . وإذا ما أتاني أحدهم اليوم بجهاز للتصليح سبق وأصلحته منذ سنوات فإنني أكتشف ذلك فوراً . ا.ھ . وحاورته (حنان جناب) من مجلة ألف باء ص27 السنة 21 في 17 آب 1988 فقال :- بعد ستة أشهر من الولادة ، فقد هذا الرجل بصره ، حيث أصيب بمرض الرمد ، كان ذلك في عام 1941 فكيف سيواجه الدنيا بعيون لا ترى النور ؟ ربما كان للفقدان المبكر لبصره الأثر الكبير في تحديد مسار حياته المستقبلية . والدته التي أشرفت على رعايته قررت مساعدته في الإعتماد على نفسه في الأمور الحياتية الصغيرة . وهكذا بدأ فضوله الطفولي في فتح وتركيب الأجهزة الكهربائية يشغل أهل البيت ، وما لبث هذا الفضول أن تحول الى هواية ثم الى إحتراف وصنعة وتخصص في تصليح أنواع الغسالات يكسب منها في الكبر ويربي أطفاله الخمسة وإثنين من أبناء أخته اليتامى . عائلة أبو خالد البسيطة تحلم أحلاما كبيرة وبمستقبل آمن ومتفتح ، فقد حرص السيد (وليد) على إرسال أولاده الى المدرسة وهم الآن في مراحل متفرقة ، أضافة الى تعليمهم فن الصنعة في أوقات الفراغ فالمحل لا يخلو من أحدهم في كل مرة . زرته في المنزل ، والسؤال الذي يلح في ذهني هو كيف يستدل على العطل وهو لا يرى النور ؟ يقول - نوع من الغسالات أتعرف على عطله من خلال تشغيل المحرك ، أستمع الى صوته فيدلني على الخلل ، نوع آخر من خلال اللمس ، فاللمس يعوضني عن البصر وأعتمد عليه بشكل كبير جداً ، وأحياناً ألجأ الى جهاز الإشعاع الضوئي ، وهو جهاز صنعته بنفسي يحتوي على أضوية يربط بالغسالة فيحدد نوع الخلل . تحول المنزل الى مخزن لأنواع من الأجهزة حتى ضاق بأهله ولجأ أخيراً الى إستئجار مخزن خاص بها . أسأله هل ترى أن هنالك حاجة للتخصص في تصليح الغسالات فقط وحسب علمي أن بإمكانك تصليح كافة أنواع الأجهزة الكهربائية المنزلية إضافة الى التأسيسات الكهربائية ومد أنابيب الإسالة ؟ يقول - حالياً أعمل في هذا الجانب وذلك لقلة الحرفيين في تصليح الغسالات ، فقد أصبحت لدي القدرة على تحوير البعض منها وجعلها صالحة للعمل بالإستعانة بالأدوات السليمة في العاطل منها . يعمل هذا الرجل من التاسعة صباحاً حتى التاسعة ليلاً ، وقد تعرف الناس على بيته وهم يزورونه في مختلف الأوقات . تشاركني زوجته (أم خالد) الحديث وتثني على تعاونه داخل المنزل ورعايته لها في أيام المرض وأيام الولادة وتلبية إحتياجات المنزل ، فالعوق الذي أصيب به لن يؤثر على حياته العائلية . وتقول نحن عيون له .. يسألنا مثلاً عند تصليح جهاز الهاتف عن ألوان الأسلاك ، فمن خلال ألوانها يستدل على العطل ويقوم بإصلاحه وإعادة تركيبه ثانية . مسبقاً كنت تعمل في البيت فكيف إستطعت الحصول على إجازة بممارسة العمل ؟ يقول - في السابق كنا نعمل بدون إجازة ، وعندما طلبوا منا إستحصال إجازة ذهبت الى مركز التدريب المهني لغرض إستحصالها وكان شيئاً غريباً بالنسبة للموظفين أن يمنحوني إجازة فعرقلوا لي هذه المسألة . وإستمريت في العمل بدون إجازة الى أن جاءت في يوم من الأيام الى المحل لجنة ووجدني أعضاؤها أعمل فسألوني عن الإجازة ، قلت لهم لا أملك إجازة ! وشرحت لهم كيف أن الوظفين وجدوا صعوبة في إعطائها ، فساعدتني اللجنة في إجراء إختبار لي ونجحت في الإختبار ومنحت الإجازة ا.ھ . وقال في حديث مع مجلة الطلبة والشباب :- في بداية الستينات أخذت أعمل في تصليح المراوح ومحركات التبريد إذ أن الرغبة الملحة كانت تساورني في تعلم هذه المهن الدقيقة . وفي مطلع السبعينات تدرجت بجد على تعلم تصليح الغسالات بكافة أنواعها فكان أن تحقق طموحي بشكل شجعني على المواصلة واعتبرتها المهنة الرئيسية التخصصية في حياتي العملية ، ويتعامل معي عدد كبير من المواطنين من كل مكان في تصليح غسالاتهم العاطلة إذ يجدوا الجدية والدقة والفنية في العمل ولا أبالغ إذا قلت إن إبداعاتي في المهنة تجعلني أصلح أي عطل مهما كان نوعه والآجور التي أتقاضاها محدودة تتبع نوع العطل وحاجته الى المواد الإحتياطية فالأجور إعتيادية للغاية ، ولا تواجهني أية صعوبات أو عوائق في العمل لقدرتي على تذليلها بالشكل الفني الذي يعيد للجهاز روحيته وديمومته إذ لا يمكن أن أسلم الغسالة المصلَّحة الى صاحبها إلا بعد الفحص الدقيق والتأكد من سلامتها ودقتها في العمل بالصورة المطلوبة . وكذلك أقوم بالتأسيسات الكهربائية في المنازل والمعامل وأجيد لف المحركات (الماطورات) بالصورة الفنية ولي القدرة على تصليح المراوح الكهربائية والمبردات ، إذ أن طموحي في الحياة غير محدود . إ.ھ . يقول (فوفيه) :- (إن العالَم لا يتجه فقط الى إلغاء العاهات وإنما الى توظيفها إبداعياً) . أصيب في أواخر عمره القصير بمرض السرطان وعانى منه كثيراً فقد إبتدأ المرض من الرقبة وتفشى فيه حتى وصل الى المعدة ومع هذا لم يمنعه المرض وجلسات الكيمياوي والإشعاع من ممارسة حياته الإعتيادية وبنفس روحه المرحة المتفائلة ، وظل يزاول مهنته المحببة حتى رحل عنا قاهر الظلام وكافل الأيتام عن عمر 47 سنة بعد مسيرة من الإبداع في العمل والتفاني في خدمة عائلته ورعاية أولاد أخته اليتامى ، رحمه الله .