المقال : رمضان في الأعظمية .
الصورة : جامع الإمام الأعظم ، منتصف الخمسينات .
يحتفظ المسلمون أينما وجدوا بتقاليد خاصة بصيام الشهر وقيامه. ولقد قدرت لي الاقامة في دول عديدة حول العالم، في شهور رمضانية مختلفة، اطلعت فيها على ما يُمكن وصفه بتقاليد رمضانية خاصة. هناك قاسم مشترك بين المسلمين في جملة من التقاليد الرمضانية، إلا أن ثمة خصوصيات عديدة، وقفت عليها، خلال اختلاطي بالمجتمعات المحلية، كما بالجاليات المسلمة في الشرق والغرب، على حد سواء. وفي إطار العالم الإسلامي ذاته، يُمكن الحديث عن "رمضانيات" عديدة بالمنظورين الاجتماعي والانتروبولوجي . جميلة حقاً هي مشاهد رمضان، أيامه ولياليه، حيث تتوق النفس والروح له . الأشهر الرمضانية التي شهدتها، على مدار السنين، كانت في دول متباينة قومياً، ومتباعدة جغرافياً، ومتفاوتة حضارياً. كنت أشتاق كثيراً لحلول المساء، لا من أجل الافطار ذاته، بل لمشاهدة فلكور رمضاني جديد، أصبغ بتراث قومي خاص، وتقاليد اجتماعية سائدة، وأعراف ممتدة في أعماق التاريخ. تقاليد رمضان أشبه بالفسيفساء، التي تشكلت بكل ألوان الطيف. ولو أراد إنسان أن يؤلف كتاباً حول هذه التقاليد فلا بد وأن يكتب مجلداً واسعاً. ومن المفيد، والجميل فعلاً، أن ينهض المرء بمثل هذه المهمة، متى سنحت له الفرصة لذلك . من بين المناطق التي شهدت فيها شهر رمضان المبارك، كانت منطقة الأعظمية، الحي البغدادي، الذي كان عامراً، ومفعماً بالحياة. الأعظمية في رمضان، تمثل حالة خاصة، بكل ما في الكلمة من معنى. هناك تلاوة القرآن، وتجويده وتعليمه، تعطر الأعظمية، وتتيح فرصة لمن أراد أن يتقن التجويد، فالتعليم متاح ومجان لكل من يرغب. وهناك من المؤمنين الخلص ممن سخر نفسه لهذه المهمة. في رمضانيات الأعظمية أيضاً، هناك انتروبولوجيا الأطعمة، الانتروبولوجيا البغدادية، ذات الخصوصية التي لا نظير لها. الطعام، في رمضان الأعظمية، قد لا يكون هدفاً بحد ذاته، حين يحل وقت الأفطار، بل لعل المذاق هو الأهم، والأكثر شوقاً للنفس.وإذا تجولت عصراً في شوارع الأعظمية العامرة، فعينك تتذوق، ولعلك شعرت وكأنك قد أفطرت فعلاً. تزدحم المحال، وعليك أن تنتظر طويلاً كي يأتي دورك، وتشتري ما قصدته. غالباً ما يقال إن الجمال هو جمال الروح، ولعل المنظر البديع والبهيج لأطعمة رمضان البغدادية نوع من هذا الجمال، أو جزء منه. ولعلي لا أكون مبالغاً إن قلت إن ليس ثمة نظير لبغداد على هذا الصعيد، وأنا قد جلت في هذا العالم طويلاً، وسرت في أرجائه المختلفة، وربما لم يسبقني في ذلك سوى أشخاص من أمثال ابن بطوطة. في المساء الرمضاني، ترتدي بغداد وشاحاً خاصاً، في أحيائها العامرة وضفافها الوادعة، وكأنها الجنة.لا يحب المرء أن ينتهي مساء بغداد الرمضاني، فعشق هذا المساء يأخذ الألباب، ويسحر الروح، إنه عشق لا مثيل له. في مساء بغداد الرمضاني، تحضر الروح على أجنحة مرتلي القرآن ومجوديه، وتحضرالثقافة والأدب والفلكلور، وتمتد الأمسيات طويلاً، وتزداد الضفاف، ضفاف دجلة، بهجة، حتى أن المرء لا يرغب أبداً في مغادرتها. إن الأعظمية، كما بغداد عامة، تمثل نموذجاً جلياً لما يمنحه رمضان للروح، من أنس وجمال. وتقدم مثالاً بديعاً للألفة والمحبة، وتضامن الناس وتكافلهم وتوادهم، في شهر الله، سيد الشهور.إن المسلمين، أينما كانوا، عليهم الافادة من هذا الشهر العظيم، لتأكيد تمسكهم بالقيم السامية، قيم الخير والمحبة والتسامح، والاحساس بالآخر، واحترام خصوصياته، وتمايزه الثقافي.فالإسلام، دين الرحمة والأخلاق الفاضلة. عبد الجليل زيد المرهون .
إقتباس بتصرف . ( خالد عوسي الأعظمي ) . .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق