[بعد ثلاثة عقود على وفاته]
ماذا عن عوسي الضاحك أبدا ؟
الصورة : عوسي الأعظمي على إحدى الصحف الإنگليزية ، منتصف الأربعينات .
المقال : جاسم محمد طه .. هذا الإسم قد يبدو غريباً عليك .. نعم أنا واثق تماماً أنك لا تعرف من هو ، كما كنت أنا لا أعرف رياضياً بهذا الإسم ، رغم شعبية إسم حامله . إنه شخصية رياضية شعبية ، وإسم صاحبه ليس غريباً على الأوساط الرياضية بمختلف فنونها ومجالاتها . إنه قطعة حية من الفلكلور الرياضي الشعبي . أسهم بشكل وافر في مختلف ضروب العمل الرياضي ، مصارعاً وسباحاً وجوالا ً ، ومعلقاً تلفزيونياً ، وناشراً رياضياً ، وأخيراً وليس آخراً ، منظم نزالات . أعتقد أن الصورة بدأت تقترب من أذهان القراء ، وأن الألغاز التي كانت تحيط بهوية صاحبها أخذت تتلاشى ، لترتسم في دوائر الضوء صورة رياضي معروف لا تفارق الإبتسامة شفتيه . إنه يضحك دائماً .. يضحك رغم أنفه . يضحك إن كان فائزاً أو خاسراً .. إنه عوسي الأعظمي .. أشهر كلمتين في منطقة الأعظمية .. وهل يخفى القمر ؟ .
كاسب كار ؛ رياضي شعبي من الجيل القديم . يقول دفتر نفوسه أنه من مواليد 1913 حارة الشيوخ .
في صحافة العالم ؛ كاسب كار .. لا يقرأ ولا يكتب . تحصيله الدراسي ، الصف الثاني الإبتدائي ، ومع هذا كانت تتحدث عنه صحف إنگليزية ، وتنشر صوراً تمثله على شاطيء دجلة ، وهو يختال ويزهو بعضلات جسمه المتناسقة المشدودة ، كبطل من أبطال الإغريق أو الرومان . كما كانت صحف مصر في الثلاثينات تنشر صور عوسي الأعظمي الى جانب صور مصطفى باشا النحاس كرياضي عراقي مرموق . كانت عضلات عوسي المتناسقة الرشيقة ، هي التي تتيح لصوره فرص النشر في الصحف والمجلات العربية والفرنسية . وقد تسأل عن الرياضة التي كان يزاولها عوسي الأعظمي في مطلع حياته الرياضية .. كان عوسي ، كما هو العهد بقدامى الرياضيين يمارس ويمارسون مختلف ضروب وصنوف الألعاب الرياضية ، دونما تخصص . وعوسي كان مصارعاً له في حلباتها وفوق أبسط الصراع صولات وجولات ، كما كان سباحاً ، أو ضفدعة ماء ، يقضي سحابة نهاره بين أمواج دجلة المتلاطمة ، يسبح ويعلم الأولاد السباحة . وكان جوالاً ، قام بجولة مع مجموعة من أصدقائه على الدراجات الهوائية الى مصر ومعظم الأقطار العربية . وكان أول من أقام سباقاً للتزلج على الإسفلت الأسود ، وليس على الجليد . وأول من نظم سباقاً لركض الضاحية . وقد تسأل عن البطولات التي حققها الرياضي عوسي الأعظمي ؟ . كانت مزاولة الرياضة بحد ذاتها بطولة ، في وقت كانت الرياضة فيه لا تعتبر سوى عبث قاتل ومضيعة للوقت والمستقبل !. كما كانت بالنسبة لبعضهم خروج على العرف والتقاليد ، يوم كان ظهور الولد ، وهو يرتدي الشورت القصير ، نشازاً تأباه الأعراف والتقاليد !. كان الضباب آنذاك يخيم على المفاهيم الحضارية الحديثة وكانت الرياضة تشكو إختناقاً ، وإذا تنفست وسارت ففي طريق مسدود وبلا أمل ولاصدى .. أنت تلعب من أجل لا شيء .. تلعب من أجل اللعب وإشباعاً لهواية دفينة ليس إلا . أما الإعداد الرياضي لإصطياد البطولات وتحقيق الإنتصارات على الصعيد الخارجي فهذا حلم راود القدامى وحققه المحدثون . وإذا كانت رياضة المصارعة في العراق قد شهدت إنفتاحاً على المجتمع أكثر من بقية الألعاب ، وحملت إلينا أنباء إنتصارات حققها عراقيون على مصارعين ، فرس وأتراك وهنود ، فلأنها كانت تعيش في جو يكاد يكون دينياً . وطقوس الزورخانات القديمة التي تصاحب نزالات المصارعة هي إشادات بذكر الأنبياء والمرسلين وأولياء الله الصالحين ، مصحوبة بنقر على الدفوف والرقوق وتلاوة أوردة وتراتيل تبعث في النفس الرهبة والخشوع ..
أحد الرواد ؛ كانت المصارعة آنذاك اللعبة الشعبية رقم واحد في بلاد الرافدين. وكانت شواطيء دجلة والفرات مسرحاً لهذه الرياضة .. وكان عوسي الأعظمي رائداً من روادها .. أعطاها كل حياته .. ذاب في حبها ولم يفتح عينه على سواها .. كانت حبه الأول كما كانت أمله الأخير .
إنسان مكافح ؛ وإذا كانت الرياضة قد منحت بعض محترفيها المال الوفير ، فإنها لم تمنح عوسي الأعظمي سوى ستر الحال .. وما زال وهو في سن الثانية والستين ينضح عرقاً ليعيش .. خبزه دائماً مغموس بالعرق .. وأحياناً بالدم . وهو يؤمن ، أنه بالشكر تدوم دائماً النعم .. هذه ملامح بدائية وخطوط غير مرئية من حياة عوسي الأعظمي .. الرجل الذي يقول لو ولدت مرة ثانية لما إخترت غير الرياضة هواية لي .. إنها تعني الحب والصداقة والمرح والإنطلاق والسعادة ، وهل هناك في الحياة أحلى من الحب والصداقة والتعاون .. ويستدرك عوسي ليقول ، نعم حب الوطن .. حب الإنسانية .. والرياضة دعوة لحب الوطن والناس .. كلمات بسيطة ولكنها عميقة ، يقولها عوسي الأعظمي ، الرجل الرياضي البسيط ، طالب الصف الثاني الإبتدائي .. الذي مازال يبصم ولا يجيد التوقيع !. يقولها صافية رقراقة ، ككلمات شاعر شعبي لا يجيد القراءة والكتابة ، ولكنه ينظم الشعر ، وهو في عالم الرياضة .. رياضي شعبي لم يتخرج من كلية للتربية الرياضية.. أو معهد علمي . ولكنه يجيد الرياضة كأستاذ .. دجلة الخالد يعرف عوسي الأعظمي معلم سباحة . لقن المئات من أبناء منطقة الأعظمية فنون السباحة . وشواطيء دجلة عرفت عوسي الأعظمي مصارعاً . شمس تموز اللاهبة حرقت وجهه ورمال الشاطيء سلخت جلده . وإمتزج الدم بالدمع والعرق ليرفع يديه في ختام النزال منتصراً . إنه يضحك دائماً لأنه يعرف سلفاً أن الرياضة كما هي الحياة ، سباق مع الزمن .. قد تنتصر وقد تسقط في منتصف الطريق .. وما عليك سوى أن تواصل السباق ، وهذه هي سنة الحياة والرياضة. سباق .. سباق .. سباق ..حتى النهاية .
شخصيات رياضية لا تنسى . الرياضة والشباب . ملحق جريدة الجمهورية الرياضي . العدد الثاني . الإثنين . 28 نيسان 1975 . 16 ربيع الثاني 1395ھ . الملحق (2) العدد (2319) . .
... المقال على جريدة الزمان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق