السبت، 21 سبتمبر 2019

المصارعة النظيفة مصفاة للقلوب


الصورة : عام 1929م . الأول في الخلف يسارا هو (علي محمد العنبكي/العقاد 1915- 1987) الواقفون في الوسط ، من اليمين مؤسس كمال الأجسام في العراق (صبري الخطاط) ثم الحاج (أسطه غني محمود القره غولي) ويليه أول مدرب للمصارعة الحديثه في العراق (مجيد لولو) ويشاركه في هذا المجال (عوسي الأعظمي) آول الجالسين من جهة اليسار ، فهو من الأوائل اللذين تركوا الزورخانة وإتجهوا الى المصارعة بداية الثلاثينات .

المقال : نقدم لاعزائنا "البغداديين" هذه اللمحات الحلوة لجانب منسي من حياة البغداديين في مطلع القرن العشرين، وحتى نهاية الخمسينات. هذا الجانب يتعلق بـ "الزورخانات البغدادية"، اي حلبات المصارعة كما يصطلح عليها عالميا. ففي كتاب للسيد "جميل الطائي" حول هذا الموضوع يقول: "ان اول شيء كان يلاحظه المرء عند دخوله لاماكن (الزورخانة)، هو بابها الصغير الضيق، ذلك الباب الذي كان لايسمح بالمرور فيه لاكثر من شخص واحد فقط، والذي يضطره لان يطاطئ رأسه وينحني قليلا ليتمكن من الدخول الى ارضها. اما الغاية من صغر بابها وطأطاة الرأس هذه، فهي للدلالة على احترام ارضها وطهر تربتها، ولتذكر الانسان دوما بأنه مهما اوتي من قوة فائقة يجب عليه ان لا يصاب بالغرور او الغطرسة او التعالي على الاخرين". "... اما (الجرص) الكبير المعلق امام المرشد بواسطة سلسلة حديدية من الاعلى، فالغرض من وجوده هو القيام بالضرب عليه عند دخول احد اسطوات الزورخانة او احد ابطالها الكبار، حيث يقوم بقرع "الجرص" تحية لقدومه مع الترحيب به بصوت عال، وفي الوقت نفسه يطلب من الحاضرين التهليل بالصلوات. حدثني الاستاذ "قهرمان" الابن الاكبر للحاج "حسن كورد"، مدرب ابطال العراق في المصارعة في تلك الفترة قائلا: (حينما كان والدي يدخل الى مكان الزورخانة، كان مرشدها، السيد "مهدي قجو" ينادي باعلى صوته قائلا: ياهله بأبو قهرمان! رحم الله والديكم، الگاعدين فوگ واللي جوه، جروا صلوات على النبي! اللهم صلي على محمد... وآل محمد . ومن الطقوس الخاصة بالزورخانات البغدادية، الخضوع التام من قبل المصارعين للتعليمات، والتعامل مع "ارض الجفرة"، باعتبارها مكانا مقدسا اشبه ما يكون بالمعبد الديني! . (كان لايجوز للمصارعين مزاولة تمارينهم الرياضية وهم غير مغتسلين من "الجنابة". وكان المرشدون ينادون من فوق منابرهم بين الحين والآخر، وبصوت عال قائلين: "لعنت بر تارك الصلاة لعنت بر جنبات!" . نعم وهكذا هي اخلاقيات البغداديين وكل العراقيين الشرفاء حيث كانت "جفرة المصارعة"، وهي الجفرة التي يجري فيها النزال، مكانا نموذجيا لممارسة هذه الاخلاقيات العالية السامية. ومن الزورخانات المشهورة آنذاك في بغداد "زورخانة قمبر علي" و الدهانة" و"جامع المصلوب" و"العوينة" و"خان الدجاج" و"صبابيغ الآل". ومن ابرز المصارعين في تلك الفترة الحاج غني صوان، وجميل ابو النيكل، وعباس الصندقچي، ومهدي زنو، ومجيد لولو، وموسى ابن ابو طبرة، والحاج حسن كورد، ومجيد كسل، وحميد عبد علي اللملقب بـ "حميد ليوه". أما اسماء اشهر المسكات في المصارعة ومنها: " الپلنگ چگن"، اي مسكة النمر، و"الدراو"، و"الخاك"، و"الكنده"، و"الارنج"، و"كفتر بند"، "بخاو"، و"اللكنه"! . لطالما تصور الكثيرون، وما يزالون، بان المصارعة عملية تقتصر على استعراض المسكات الفنية واتقانها، او ان المصارع رجل قوي البنية ليس الا! ولكن المصارعين العراقيين، ومنهم المصارعون البغداديون، عرضوا نماذج مشرفة للبطولة والشهامة ونجدة الناس المعرضين للخطر، وذلك في العصر الذهبي للمصارعة . ولم تكن المصارعة ايام زمان تقتصر على النزالات الفنية، والالتزام الفائق والملزم بالتعليمات والاعراف والمبادئ المعروفة بهذا الصدد. بل كانت العروض الفنية والنزالات في "الجفرة" تعكس وتحتوي جانبا اخر لاعلاقة مباشرة له بالمصارعة ، بل بالمصارعين انفسهم. لقد كانت تلك العروض والنزالات مناسبة مشهودة وطيبة لتجمع العرب والكورد والتركمان في مكان واحد، وتحت شعار واحد: "المصارعة النظيفة، مصفاة للقلوب!". ان البغداديين الذين عايشوا حقبة الاربعينات والخمسينات، يتذكرون اسما رياضيا كان يرن في اوساط المصارعة والسباحة والدراجات والجمناستك. وهذا الاسم هو "عوسي الاعظمي". يقول المؤلف في كتابه "الزورخانات البغدادية": (ولد المصارع جاسم محمد طه) والملقب بـ "عوسي الاعظمي" في محلة الشيوخ بالاعظمية عام 1913 م . تدرب تحت اشراف البطلين "الحاج عباس الديك" و"الحاج حسن كورد" في زورخانة "الدهانة". تغلب على العديد من المصارعين، وهو اول من اقام لعبة "السكيتنك" في الاعظمية، ابتداء من دار (رشيد عالي الگيلاني) لغاية نادي الاعظمية الرياضي. افتتح له مكتبة رياضية مقابل مقهى "حجازي"، وكان يراسل ابطال العالم مثل "ساندو" و"مكفادن" و"ليدرمان". فالاحتفالات التي كانت تقام برعاية الملك فيصل الاول، ويقدم لهم الهدايا الثمينة كان يشارك فيها ابطال المصارعة العراقية امثال "مهدي الزنو" والحاج "عباس الديك" والحاج "نصيف" وغيرهم. وفي نزالات المصارعة التي كانت تقام لمنفعة شهداء الشرطة العراقيين ولانقاذ فلسطين، والتي غالبا ما كان يحضرها "الوصي عبد الاله" وكبار رجالات الدولة! . اما حكام تلك النزالات فكانوا كلا من "الحاج محمد ابن اسطه بريسم" و"الحاج حسن كورد" و"الحاج غني محمود القره غولي"! . فالمصارعة بمعناها القديم والمألوف لم يعد لها وجود الآن في العراق . لقد مضت تلك الايام..، ولكن ذكر ابطالها ما زال باقيا صفحة مشرقة من تاريخ بغداد والعراق. عباس البدري إقتباس بتصرف خالد عوسي الأعظمي .

أحدث مقال

[بعد ثلاثة عقود على وفاته] ماذا عن عوسي الضاحك أبدا ؟

  [بعد ثلاثة عقود على وفاته] ماذا عن عوسي الضاحك أبدا ؟ الصورة : عوسي الأعظمي على إحدى الصحف الإنگليزية ، منتصف الأربعينات . المقال : جاسم م...