الجمعة، 14 يوليو 2023

14 تموز وذكريات الصـبا


 

الصورة : مقهى محمد غايب في الأعظمية منتصف الستينات .

المقال : كنا نقضيّ العطلة الصيفية المدرسية ، و كنت اخرج منذ الفجر والأهل والجيران نائمين على السطوح في شهر تموز اللاهب 1958، حيث كانت الشوارع خالية، و كنت التقي مع عدد من ابناء الجيران لنجمع علب السيكاير الفارغة من انواع سيكاير : التركي، لوكس، غازي العراقية، اضافة الى انواع العلب الأجنبية التي كان عدد من رواّد مقهى " محمد غايب " الأغنياء يرمون بها بعد تدخين محتوياتها، من انواع سيكاير : كات (ابو البزون)، البحّار، بلاك اند وايت ذات العلبة المعدنية . كنّا تلاميذ محلة الشيوخ في الأعظمية نتنافس مع صبيان محلتي الدِهِدْوينه وشارع عشرين ، نتسابق كي نحصل على اجمل العلب الفارغة لنصنع منها لُعباً كبيوت كرتونية صغيرة نلعب ونلهو بها ونريها للآخرين الذين ان اعجبوا بها، كنّا نبيعها لهم لتحسين خرجيتنا من اليوميّة الشحيحة . في فجر الرابع عشر من تموز ذلك العام، وفيما كان ضوء الفجر يبدأ بالظهور، حين كنا نبحث بين تخوت مقهى محمد غايب ، عن العلب الفارغة في الساحة الخارجية للمقهى الكبير. . جاءت مجموعة ملثمة بكوفيّة الرأس من ثلاثة شباب ولصقت صوراً لم تكن واضحة كثيراً لضابط كبير كما ظهر من نجماته الظاهرة في الصور حاسر الرأس، كما شاهدناها بعيوننا ونحن كامنين تحت التخوت . . لننط من مكاننا بعد ان اكملوا وَشْوَشاتهم مع " محمد غايب " الذي كان يراقب لهم الفرع الرئيسي المؤدي الى بداية الجسر الجديد آنذاك " جسر الأئمة " . . ثم ذهبوا بخفة وبكل هدوء مع علبة اللاصق التي حملوها. اقتربنا من الصور لنرى لمن تعود، واستطعنا بمساعدة ضوء مصابيح الشارع التي كانت لاتزال مضيئة ان نراها ونقرأ ما كان مطبوعاً تحتها . . فقرأنا تحت الصورة " الزعيم الركن عبد الكريم قاسم القائد العام للقوات المسلحة في الجمهورية العراقية " ، بينما صاح محمد غايب بصوت هامس يشبه الفحيح العالي النبرة بين صوت الراديو الذي كان يبث آيات من القرآن بصوت عبد الباسط عبد الصمد :ـ يا ولد صارت ثورة !! ، خبّروا اهلكم !! . ومع اكتمال ضوء الصباح خرجت وصبيان المحلة الآخرين، في وقت بدأت فيه اذاعة بغداد تبث نشيد " الله اكبر فوق كيد المعتدي " و مارشات عسكرية وبيانات تعلن عن قيام الجمهورية وانتهاء الملكية وتطلب من الناس الخروج الى الشوارع لدعم الثورة !! فيما صارت اصوات المدفعية والقذائف تُسمع بوضوح اكبر، بعد ان سمعناها آتية من بعيد و لم نكن نعرف ماهيتها ولم نعرف تفسيراً لها منذ ان بدأت بالدوي، لأننا لم نسمع مثلها قبلاً ! . وصلنا الى مدخل سوق الشيوخ المسقّف القديم من جهة الجسر، لنطل على " شارع الأمام الأعظم " الرئيسي وحيث يبدأ جسر الأئمة (رأس الجسر) شاهدنا ولأول مرة في حياتنا " دبابة " ،  وكانت في الحقيقة سيارة مدرعة محملة بالسعف والورود وبالناس الفرحين الهازجين المليئين بالفرح و الهاتفين " يسقط الاستعمار والرجعية "،" عاشت الجمهورية "،" الموت لنوري السعيد، الموت للوصي عبد الإله " !! . ثم اخذنا نسمع الهوسات الحماسية لآلاف مؤلفة من البشر قادمة على الجسر من الكاظمية وهي تهتف " جيش وشعب وايّاك يا قائد الثورة " ، " سنة وشيعة ايد بايد من اجل الشعب السعيد " ، " كلنا جنودك يا زعيم " . . لتمر المسيرة الهائلة امامنا التي كانت تدعو الى السير نحو باب المعظم، بعد ان التحم بها قسم من جموعنا . سارت جموعنا بمحاذاة " جامع الأمام الأعظم " على طريق " الحمّام القديم " لينثر اصحاب المحلات ما لديهم من حلوى و حامض حلو علينا . و من مأكولات ملفوفة بورق ومكسّرات، و على الجميع مجانا، والبعض نثر حتى مسكوكات نقودهم علينا ، لتنهال علينا انواع اغلى من الحلوى والشكولا من محلات لطوّفي كاكا والنقود والصمون الحار ولنستلم انواع البقلاوات والزلابيا والسندويج الغالي الثمن مجاناً . . وسط اهازيج واغاني ودعوات وتكبير " اكلوا يرحمكم الله . كانت الجموع تتزايد بالتحاق جدد بها من محلات الحمّام والحارة . ثم من رأس الجسر القديم و محلة السفينة وازقتها ومقاهيها الى حدائق المقبرة الملكية حين صعد " عوسي الأعظمي " يحيي الجماهير بآلته الموسيقية ذات وقع الطبلة من على اعلى عمود كهرباء مشبّك مطل على ساحة الشباب . ثم حيّا الركب المستمر باهازيجه المشيدة بالشعب والوطن . . حيّا الطلبة المتواجدين في ذلك الصيف في الأقسام الداخلية العائدة لـ " كلية الملك فيصل" التي صارت لاحقاً " دار المعلمين الأبتدائية " ووصلت الجموع مقابل المقبرة الملكية ووقفت مجموعة من المتظاهرين تريد تحطيم ابوابها فاوقفهم عدد من النواطير من اهل المنطقة اضافة الى عدد من رجال الدين الذين هرعوا لحماية " قدسية المقابر و الأموات " و محذّرين من " انتقال آثامهم اليكم " . وطافت المسيرة بشارع الشباب . و لتستمر المسيرة و تلتقي في ضحى ذلك اليوم الجميل في رأس الحواش بجموع هائلة اكبر قادمة من جهة الكاظمية ايضاً ولتتوحد بها، ليبدأ القراّءون بقراءة البيان الأول للثورة بالترديد المرتفع الصوت لاذاعة البيان الأول من الاذاعة العراقية . وبدأت الناس ترفع صوراً لضباط جدد معروفين لها ومن ابنائها في الأعظمية و غيرهم . . فارتفعت صور العقيد رفعت الحاج سري وصور المقدم وصفي طاهر اضافة الى العقداء عبد السلام عارف والمهداوي . . اضافة الى عقداء المربع الذهبي الشهداء صلاح الدين الصباغ و كامل شبيب ورفاقهما الذين اعدموا مطلع الأربعينات . بعد اسابيع عادت د. نزيهة الدليمي من ابعادها للنجف الى بغداد، د. عبد الصمد نعمان من ابعاده الى حلبجة و اعاد فتح عيادته المعروفة لأهالي الأعظمية، و عاد د. عبد الأمير السكافي من ابعاده للرمادي الى اهله في النجف و بدأ بزيارتنا و استأجر مشتملاً في الاعظمية . كانت مقاهي الأعظمية تكتظ بروادها لمشاهدة تلك المحاكمات العلنية الجريئة التي كانت تبدأ بحدود الساعة السادسة مساءً في كل يوم من تلك الأيام . منها ما كان يدور في مقهى محمد غائب في الأعظمية مقابل بيتنا، لرؤية جلسات المحكمة العلنية و اخرى لمناقشة ما كان يدور في البلاد في ايام الخميس والجمعة . و كان يلتف حولهم عدد كبير من رواد المقهى و يشاركون في النقاشات متفقين او مختلفين في اجواء حوارات كانت تحترم الآراء آنذاك 

 مهند البراك إقتباس بتصرف

خالد عوسي الاعظمي

أحدث مقال

[بعد ثلاثة عقود على وفاته] ماذا عن عوسي الضاحك أبدا ؟

  [بعد ثلاثة عقود على وفاته] ماذا عن عوسي الضاحك أبدا ؟ الصورة : عوسي الأعظمي على إحدى الصحف الإنگليزية ، منتصف الأربعينات . المقال : جاسم م...