الأربعاء، 30 يناير 2019

الجواهري في عش الأعظمية



الجواهري في عش الأعظمية 
المقال : وجد الشاعر الأكبر (محمد مهدي الجواهري) داراً في منطقة (الأعظمية) وعلى (نهر دجلة) وقد كان يسكن في (العيواضية) حينها. بعث الى عائلته للعودة الى (بغداد) وفي الأعظمية أحس الشاعر بدفء الجيرة والصلة الوطنية والانسانية الحميمة في ما حوله من الناس، مشاعر خالية من اي شائبة ومرض من اختلاف مذهبي أو سياسي ، إذ أغدق عليه أهل الأعظمية كلَّ مشاعر الاعتزاز والاحترام المقرونة بالود والمحبة والأمن، وذكر ذلك في مذكراتهِ : " لقد أمضينا في هذا العش الجديد في الأعظمية وبعد كل تلك الآلام والمكابدة خمس سنوات بين جماهير الأعظمية وبيوتها وشبابها معززين مكرمين لم نسمع خلالها ولا كلمة نابية، بل حباً ومودة متبادلين." المذكرات ج2 ص 67 . لقد أقام الجواهري في ربوع الأعظمية وأهلها خمسة أعوام، وما نعرفه عن الجواهري وعائلته ومدينة (النجف) مذهباً، واتجاهاً سياسياً يسارياً محسوباً على الحزب الشيوعي، بسبب انتماء أبنائه إليه وليس هو شخصياً. ولنقرأ الجواهري وهو يروي بنفسه: " ومع هذا وحتى هذه الساعة وقد دخلنا العشرة الأخيرة لنكون في القرن الواحد والعشرين فما ينفك النابحون في العراق والمستغلون خارجه ينبحون بالنعرة الطائفية مستغلينها ومتاجرين بها." (ذكرياتي) الجزء2 ص67 دار الرافدين/ دمشق 1988 . 
ومن المعروف أيضاً أن الأعظمية كانت منبتاً ومركزاً ومعقلاً من معاقل القوميين العرب بعثيين وناصريين وغيرهم. ومنها انطلق قادة كثيرون من هذا التيار العراقي. اضافة الى وجود التيارات الاسلامية الأصولية والسلفية فيها. وبعيداً عن الهوى والانحياز والتعصب علينا النظر والقياس الموضوعيان في حالة التعامل مع الشاعر في منطقة الاعظمية لنفهم حقيقة العراقيين الناصعة ومعدنهم الأصيل في موضوعة ما يُسمى بالصراع الطائفي في العراق خبثاً وتعمداً لغايات في نفوس مريضةٍ وأجنداتٍ خارجية تروم السوء بالعراق وأهله وتخطط لغايات سياسية بعيدة عن مصالح الشعب العراقي، ومثلما اشار الجواهري نفسه في مذكراته. الجواهري الشيعي النجفي يقيم في الأعظمية ويلقى كل معاملة حسنة وكل احترام ومحبة وتقدير في فترة تاريخية تعتبر بمقاييسنا الحالية زمنَ تخلف وأميةٍ واسعة منتشرة في عمق المجتمع العراقي في الثلاثينات والأربعينات والخمسينات من القرن الماضي. لكننا بالعكس نقرأ ونسمع وعشنا ورأينا بأنفسنا خلو المجتمع العراقي من أشكال التطرف والنعرة المذهبية الطائفية والسياسية على الأرض، مع وجود استثناءات لم تكن ملموسة ولم تكن ظاهرة اجتماعية طاغية و إنما محصورة في اطار ضيق في بعض النفوس المريضة. وما يرويه الجواهري الكبير من واقع حياته لتلك الحقبة الزمنية دليل على ما نقول. إن تثمين وتأريخ الجواهري لما كان يلقاه من الأعظميين حقيقة لا أعتقد جازماً أن الشاعر أراد من ورائها شيئاً غير الموضوعية التاريخية، اضافة الى إدانة كل موقف غير سليم ولا موضوعي وخبيث يحاول تفريق وتمزيق لحمة الشعب العراقي. لقد كانت الأعظمية تضم في أحيائها الكثير من أطياف الشعب العراقي المختلفة مذهبياً وقومياً، ومنهم الكرد والكرد الفيليون دون ان يلقوا عنتاً أو تمييزاً أو ما يخدش مشاعرهم. بل عاشوا معاً في وئام وعلاقات جيرة وصداقة امتدت حقباً طويلة حتى اليوم. إن تجاوز الناس للمذهبية والتعصب القومي وبعدهم عن الطائفية كانت حالة صحية يمتاز بها العراقيون، الى جانب تجاوزهم للمواقف والولاءات السياسية المختلفة في علاقاتهم الاجتماعية الطيبة الخالية من الأمراض التي تصيب المجتمعات المشابهة لمجتمعنا العراقي وفي تلك الحقبة التاريخية.


الاثنين، 14 يناير 2019

قناع الموت


قناع الموت.


الصورة : جثة (جواد سليم) في ثلاجة الموتى .
المقال : في عام 1971، قررت الفنانة البريطانية (حصلت على الجنسية العراقية بعد وفاة زوجها) لورنا سليم مغادرة العراق نهائياً، وكانت قد أمضت فيه ما يقارب العشرين عاماً في الرسم والتدريس. في السبعينيات قرأت في صحيفة أو مجلة عن لورنا سليم، التي لفّها النسيان تقريباً، ولا يتذكرها الآن إلاّ بعض من النخب الثقافية العراقية والمقربون من عائلتها. وعندما مات زوجها وشريك حياتها الفنان العراقي الكبير جواد سليم عام 1961، فقدت لورنا سند روحها وضوء حياتها. لكنَّ ما يهمني هنا هو تلك الالتفاتة الشعرية والصداقية البارعة التي قام بها النحات العراقي خالد الرحال. كان الرحال كأنما يُريد أن يُديم أو يُوثق تلك اللحظة الغامضة، والمحيّرة التي تظّلل وتلي الموت مباشرة؛ إذ ما ان جاءه خبر موت صديقه جواد سليم حتى أسرع الى المستشفى، ومعه كمية من الجبس الخاص بالنحت، وقام على الفور بوضعه على وجه جواد، فأنجز، عملاً نادراً بنحت قناع لوجه جواد سليم، وسُمي «قناع الموت». في كتابها المُمتع، الذي وضعته الصحافية والكاتبة انعام كجه جي، «لورنا... سنواتها مع جواد سليم- دار الجديد» إشارة الى ما قام به جواد سليم نفسه تجاه صديقه الفنان فائق حسن، في فترة مبكرة. ولكن على غير العادة، لم يقم جواد سليم بنحت وجه فائق حسن، وإنما نحت يديه وأصابعه البارعة التي «تشتغل» وتفكر. بسبب وفاته المبكرة لم يتسن لجواد سليم أن يرى الصيغة الأخيرة، لعمله الفذ، «نصب الحرّية»، فقامت لورنا سليم بالاشراف الأخير على وضع المنحوتات الجدارية الضخمة، التي تتوسط ساحة التحرير، وهي غير بعيدة عن جدارية فائق حسن، التي تحدث عنها سعدي يوسف في عملٍ شعري شهيرٍ له. والمفارقة أن «نصب الحرية»، منذ أحداث العراق، باتَ يُعرض على نحو شبه يومي في بعض الفضائيات العربية، بينما جواد سليم الصامت، يَتَنزه بإزميله في الجانب الآخر من بستان الحياة. أنجز جواد سليم «نصب الحرية»، في ايطاليا، وعاد به الى بغداد، وجاءت فكرة اقتراح اقامة النصب أصلاً كما تقول انعام كجه جي، بمبادرة من المهندس المعماري رفعة الجادرجي. وقد كانت لجواد سليم الحرية الكاملة، في صياغة الأشكال النحتية والصيغ الفنية الموجودة في تلك الجدارية. مات جواد سليم عن عمر 42 عاماً، لكن أين انتهى المطاف بقناع الموت؟ . يذكر النحات محمد غني حكمت في رسالة شخصية إلى واضعة الكتاب مؤرَّخة في 1997/3/7 بأنه خلال زيارات متعددة قام بها الى روما، وجد قناع الموت في حانة جينو الايطالية، وكان يرتادها خالد الرحال وبعض الفنانين، وكان القناع موضوعاً ومهملاً في زاوية من المكان، فما كان من محمد غني حكمت إلا أن طلبه من خالد الرحال، للاحتفاظ به، فأعاده الى بغداد مجدداً، ووضعه في «مشغله»، شاهداً على مرحلة ثرية في الفن العراقي الحديث. ومن مفارقات الأقدار أنّ لوحة تمثّل فتاة تجلس إلى جانب إناء زهور، رسمها سليم سنة 1950، بيعت في أحد مزادات سوذبي، سنة 2011، بأكثر من 362 ألف دولار؛ في حين أنّ صديق عمره الفنان محمد غني استردّ له منحوتة، نُهبت من متحف بغداد بعد الغزو الأمريكي سنة 2003، مقابل… 100 دولار! . يقول جواد سليم في مذكراته :- إنني من الذين يؤمنون بالمستقبل. إنني أثق بالغد وأؤمن بفوز الحق والأفضل. وكل إنسان يتطلع الآن للمستقبل. الغد ما أقربه. غداً السلام يقترب وأشباح الموت وآلات الشر تحتضر في بيوتها. ألم تتحرر باريس كعبة الفن؟ وبيكاسو النبي ألم يخرج للعالم الجديد بعد انكماشه في بيته طوال أربع سنوات لم ير فيها باريس؟
جمع واعداد

الاثنين، 7 يناير 2019

أبو تقي أشرف من هتلر!






الصورة : هتلر الأعظمي منتصف السبعينات .



المقال : هتلر المعظماوي، أو أبو تقي الشخصية البغدادية الظريفة، والذي مزج بين المزاح والجنون، بحبه لتقليد شخصية الزعيم النازي (هتلر)، مرتديا معطفا عسكريا طويلا، وقد ملئ بالأوسمة والنياشين العسكرية والمدنية؛ وحتى الدعائية منها، وما قد يجود به محبي هذه الشخصية، من هدايا يتلقفها منهم بقرحته الطفولية، أما قصة شعره وشاربيه، فكان يصففهما أحد أصدقائه من الحلاقين، حتى تصبحا صورة طبق الأصل لشارب وتسريحة الزعيم مع كلمة (نعيماً زعيم، الحساب علينا) ، فيقف أبو تقي مؤديا التحية النازية (هايل هتلر) رافعا يده اليمنى للحلاق والحاضرين من الزبائن الذين تجمعوا لرؤية الزعيم هتلر المعظماوي. ومن الظريف؛ أن الأستاذ (شعوبي إبراهيم) عازف الجوزة وابن الأعظمية، كان يجلب له مسجل للمقهى، وقد سجل عليه تسجيلات من إذاعة برلين باللغة العربية، وبصوت مذيعها المشهور (يونس بحري) مضيفا على المقطع الصوتي الأساس: هنا إذاعة صوت العرب من برلين، الفوهرر (يعني هتلر بالألمانية) يرسل تحيته وسلامه الحار، إلى جاسم أبو تقي في بغداد، مختتما إياها بالنشيد النازي الألماني! وفي أحد الأيام؛ بدا أبو تقي زعلان! فسإل عن السبب فأجاب : “ الاعتبارات والأصول قد فقدت من بعض الناس “، لان (الرئيس البكر) عندما زار الأعظمية، لم يمر على ” كهوة شهاب توشه “ لزيارته ، وطبعا هذا عيب برأي أبو تقي، ومخالف للأعراف الدبلوماسية بين الزعماء “. كان الناس وخاصة الشباب؛ فرحين بوجود الزعيم هتلر (أبو تقي) بينهم، فيضحكون معه ويمازحونه، لكن على طريقته بتعظيم روح الزعامة فيه، وأنه الزعيم الأوحد. كان هذا من الماضي الاجتماعي القريب لبغداد ولبساطة أهلها، وحبهم للنكتة والضحكة، فلم يتجمعوا حول أبو تقي إلا لنفسه الطيبة، وروحة المرحة التي يقلد فيه شخصية الزعيم النازي، فيفرح بضحكتهم ولقائهم به أكثر مما يفرحون. لم يتكبر أبو تقي ولم يصبه الغرور، بل كان يخفف عن الناس آلامهم، على طريقته الخاصة. أما بعض زعمائنا اليوم، نجدهم وقد غرقوا في أوهام السلطة والكرسي، بالتفاف المتملقين عليهم من صناع الطغاة، لا لقيادتهم الحكيمة أو شخصيتهم الفذة، بل للمكاسب التي يجود عليهم هؤلاء القادة الحالمين، البعيدين عن الواقع المرير الذي يعيشه شعبنا. لا أضع اللوم عليهم فحسب، بل على كل من يبعدهم عن واقع وأمنيات وأحلام شعبنا، التي أصبحت في مهب الريح، حتى خيل لهم أنهم أصبحوا (الزعيم الأوحد)، والأقرب الى نفوس الشعب. ولم يدر بخاطرهم أنهم الأقرب من الفوهرر (هتلر) والأبعد عن أبو تقي  . 


.مقال من تأليف : احمد شرار
 إقتباس بتصرف خالد عوسي الأعظمي

أحدث مقال

[بعد ثلاثة عقود على وفاته] ماذا عن عوسي الضاحك أبدا ؟

  [بعد ثلاثة عقود على وفاته] ماذا عن عوسي الضاحك أبدا ؟ الصورة : عوسي الأعظمي على إحدى الصحف الإنگليزية ، منتصف الأربعينات . المقال : جاسم م...