الجواهري في عش الأعظمية
المقال : وجد الشاعر الأكبر (محمد مهدي الجواهري) داراً في منطقة (الأعظمية) وعلى (نهر دجلة) وقد كان يسكن في (العيواضية) حينها. بعث الى عائلته للعودة الى (بغداد) وفي الأعظمية أحس الشاعر بدفء الجيرة والصلة الوطنية والانسانية الحميمة في ما حوله من الناس، مشاعر خالية من اي شائبة ومرض من اختلاف مذهبي أو سياسي ، إذ أغدق عليه أهل الأعظمية كلَّ مشاعر الاعتزاز والاحترام المقرونة بالود والمحبة والأمن، وذكر ذلك في مذكراتهِ : " لقد أمضينا في هذا العش الجديد في الأعظمية وبعد كل تلك الآلام والمكابدة خمس سنوات بين جماهير الأعظمية وبيوتها وشبابها معززين مكرمين لم نسمع خلالها ولا كلمة نابية، بل حباً ومودة متبادلين." المذكرات ج2 ص 67 . لقد أقام الجواهري في ربوع الأعظمية وأهلها خمسة أعوام، وما نعرفه عن الجواهري وعائلته ومدينة (النجف) مذهباً، واتجاهاً سياسياً يسارياً محسوباً على الحزب الشيوعي، بسبب انتماء أبنائه إليه وليس هو شخصياً. ولنقرأ الجواهري وهو يروي بنفسه: " ومع هذا وحتى هذه الساعة وقد دخلنا العشرة الأخيرة لنكون في القرن الواحد والعشرين فما ينفك النابحون في العراق والمستغلون خارجه ينبحون بالنعرة الطائفية مستغلينها ومتاجرين بها." (ذكرياتي) الجزء2 ص67 دار الرافدين/ دمشق 1988 .
ومن المعروف أيضاً أن الأعظمية كانت منبتاً ومركزاً ومعقلاً من معاقل القوميين العرب بعثيين وناصريين وغيرهم. ومنها انطلق قادة كثيرون من هذا التيار العراقي. اضافة الى وجود التيارات الاسلامية الأصولية والسلفية فيها. وبعيداً عن الهوى والانحياز والتعصب علينا النظر والقياس الموضوعيان في حالة التعامل مع الشاعر في منطقة الاعظمية لنفهم حقيقة العراقيين الناصعة ومعدنهم الأصيل في موضوعة ما يُسمى بالصراع الطائفي في العراق خبثاً وتعمداً لغايات في نفوس مريضةٍ وأجنداتٍ خارجية تروم السوء بالعراق وأهله وتخطط لغايات سياسية بعيدة عن مصالح الشعب العراقي، ومثلما اشار الجواهري نفسه في مذكراته. الجواهري الشيعي النجفي يقيم في الأعظمية ويلقى كل معاملة حسنة وكل احترام ومحبة وتقدير في فترة تاريخية تعتبر بمقاييسنا الحالية زمنَ تخلف وأميةٍ واسعة منتشرة في عمق المجتمع العراقي في الثلاثينات والأربعينات والخمسينات من القرن الماضي. لكننا بالعكس نقرأ ونسمع وعشنا ورأينا بأنفسنا خلو المجتمع العراقي من أشكال التطرف والنعرة المذهبية الطائفية والسياسية على الأرض، مع وجود استثناءات لم تكن ملموسة ولم تكن ظاهرة اجتماعية طاغية و إنما محصورة في اطار ضيق في بعض النفوس المريضة. وما يرويه الجواهري الكبير من واقع حياته لتلك الحقبة الزمنية دليل على ما نقول. إن تثمين وتأريخ الجواهري لما كان يلقاه من الأعظميين حقيقة لا أعتقد جازماً أن الشاعر أراد من ورائها شيئاً غير الموضوعية التاريخية، اضافة الى إدانة كل موقف غير سليم ولا موضوعي وخبيث يحاول تفريق وتمزيق لحمة الشعب العراقي. لقد كانت الأعظمية تضم في أحيائها الكثير من أطياف الشعب العراقي المختلفة مذهبياً وقومياً، ومنهم الكرد والكرد الفيليون دون ان يلقوا عنتاً أو تمييزاً أو ما يخدش مشاعرهم. بل عاشوا معاً في وئام وعلاقات جيرة وصداقة امتدت حقباً طويلة حتى اليوم. إن تجاوز الناس للمذهبية والتعصب القومي وبعدهم عن الطائفية كانت حالة صحية يمتاز بها العراقيون، الى جانب تجاوزهم للمواقف والولاءات السياسية المختلفة في علاقاتهم الاجتماعية الطيبة الخالية من الأمراض التي تصيب المجتمعات المشابهة لمجتمعنا العراقي وفي تلك الحقبة التاريخية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق