الصورة /الإنقلابيون بعد القضاء على العائلة المالكة عام ١٩٥٨م.
هوسات شعبية كثيرة سمعتها ورددتها بفرحٍ منذ الصغر ، بعض تلك الهوسات لا زالت محفورة في سقف ذاكرتي كما هي أناشيد المدرسة الأبتدائية ، أتذكر منها :- مصر حرة عربية .. فلتسقط الصهيونية أو ، فلسطين عربية فلتسقط الصهيونية . وكذلك ، نوري السعيد القندرة .. وصالح جبر قيطانها . وبين الحين والآخر كانت تعلو هوسة :- الطوب أحسن لو مگواري ؟ ، وهي من أشهر هوسات ثورة العشرين ، وكانت تُطرح في كل المناسبات . كذلك كان الناس يرددون في تلك المظاهرات واحدة من أطرف الهوسات وأكثرها مدعاةً للإبتسام اليوم ، وهي هوسة :- بالكالة إنسقط لندن .. بالكالة إنسقط لندن ، ( الكالة هي حذاء أبيض من القماش أو الخيوط ، خفيف ومريح ورخيص ، وصناعة محلية ) . وأعتقد بأن مؤلف تلك الهوسة الشقندحي كان أحد الشطار الذين يعملون لحساب ( أبو ناجي ) ، وهي كنية الإستعمار الإنكليزي في العراق . كُنا كطلبة نستجيب بتلقائية سحرية عجيبة للدعوة اللذيذة لكل أنواع الفوضى ، كنا نخرج من مدارسنا بحجة مسيرة أو تظاهرة أو إحتفال أو مهرجان أو إحتجاج ، كذلك فعل المعلم والموظف والعامل والفلاح وطلبة الكليات والمتقاعدين وربات البيوت وحتى السكارى والمشردين ، لأن كل تلك الممارسات كانت تسلية وبهجة وفرح أبيض وسعادة لم نكن قد مارسناها أو أحسسنا بها من قبل . كان إنفلاتاً جديداً لذيذاً ، ومواقف وطنية وشعبية أشعرتنا بالأنتماء إلى الوطن العراقي الموحد بقومياته وأديانه ، ولفترة زمنية معينة ربما لن تعود أبداً ، أحس العراقيون بأنهم إخوة أحرار بدون فوارق من أي نوع ، وكانت حقيقة مُفرحة لم يصدقها أحد ، ولم يعمل على الدفاع عنها أحد فيما بعد . كان إنتماءً للعراق يختلف طعمه تماماً عن إنتماء العائلة والمحلة والعشيرة والبلدة ، كان إنتماءً أصيلاً ذا مذاقٍ لا زلنا نتلمظه لحد اليوم . وهكذا شبعنا هوسات ولافتات وشعارات لدرجة جعلت كل الخطاطين في حالة إستنفارٍ دائم . بعدها وبقدرة قادر إنقسم العراق إلى عشيرتين كبيرتين ، واحدة علمها أحمر وتهتف للخال لينين ، والأخرى علمها أخضر وتهتف للعم عبد الناصر و إلى عفلق وللمشير العارفي . وكانت هوسات تلك الفترة تقول :- كرد وعرب فد حزام .. عاش الزعيم المقدام و لا بعثية ولا قومية .. جبهة حرة وطنية و هربجي .. هربجي كرد وعرب رمز النضال و يا بو الماطور تانيني .. للساحة الحمرة وديني ، كذلك نشيد الحزب الشيوعي العراقي :- سنمضي سنمضي إلى مانريد .. وطنٌ حرٌ وشعبٌ سعيدْ . سنحمي سنحمي قلاع السلام .. ونبني ونبني عراقاً جديدْ وكذلك الهوسة المُلحنة على نغم الأغنية :- عل ميمار وعل ميمار وعل ميمار .. حزب الشيوعي اليوم عيده الأكبر . أما في الجانب الآخر من لعبة الموت في العراق فكانت ترتفع هوسات القوميين العرب والبعثيين :- يا بغداد ثوري ثوري .. خلي قاسم يلحگ نوري . كذلك ، إحنة جنودك يا جمالْ .. جيب سلاح وأخذ رجالْ . كذلك يتذكر معظمنا الهوسة التي كانت تسخر من مشاريع الزعيم قاسم :- عاش الزعيم اللي زيَّد العانة فلس !!! . كذلك الهوسة القديمة التي حوروها وطوروها بحيث أصبحت تحمل إسم الزعيم والتمر الزهدي . وبينما كانت إذاعة ( صوت العرب ) من القاهرة ومذيعها أحمد سعيد تُهاجم فاضل المهداوي ومحكمته والزعيم قاسم والقوى اليسارية وموسكو ( إخرسي يا أبواق موسكو ) ، نزلت إلى الشارع العراقي هوسات مضادة تقول :- على عناد صوت العرب يحكم المهداوي كذلك :- عبد الناصر شيل إيدك .. شعب العراق ميريدك . وقبالتهم في نفس الشارع راح القوميين والبعثيين يهوسون :- يا مهداوي للأمام .. خرطگيشن نمبر وان وكذلك :- دولة وحدة عربية .. على عناد الشيوعية . كذلك . اللي ما عندة چلب .. خل يربط المهداوي . كان كلا الطرفين يشتم ويُعير الطرف الآخر بطريقة غابت عنها كل مقومات الخلق والآداب والحضارة والوطنية ، وكنا جميعاً قد شاركنا في صنع تلك المهزلة . بعدها هبطت علينا وبكل ثقلها الأحداث الدامية المُفجعة للموصل وكركوك 1959 والتي إبتدأت بحركة الشواف . فبعد القضاء على حركة الشواف ومن معه :- رفعت الحاج سري والطبقچلي ومحمود عزيز وعزيز أحمد شهاب وغيرهم ، بدأت عمليات القتل والسحل الإنتقامية ، وتقول كثير من الشواهد والتحقيقات بأن الغوغاء وكعهدهم في كل زمانٍ ومكان ، قد شاركوا بصورة كبيرة وفعالة في توسيع وتقبيح العملية التي تم من خلالها تصفية الكثير من الحسابات الشخصية . كانت حوادث الموصل وكركوك المؤسفة قد فتحت صهاريج اللهب على رأس كل العراقيين ، وكانت بحق القشة التي قصمت ظهر العراق ، ومن خلالها بدأ العد التنازلي لأكبر محرقة في كل تأريخ العراق والتي لا زالت ملتهبة لحد اليوم . من الجانب الآخر تمت محاكمة الضباط المشتركين في حركة الشواف ، وأصدرت محكمة الشعب برئاسة فاضل المهداوي ، حكمها بإعدامهم في أيلول 1959 ، وكان من ضمنهم رفعت الحاج سري وناظم الطبقجلي وغيرهم ، وحين تأنّى الزعيم قاسم قليلاً قبل إعدامهم ، طلع عليه الشيوعيون بهوسة :- لتگول ما عندي وكت .. وإعدمهم الليلة . وكذلك هوسة :- عاش الزعيمي .. عبد الكريمِ .. حزب الشيوعي بالحكم .. مطلب عظيمِ . كذلك هوسة :- ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة ، وكان هذا تصريحاً للسحل بالحبال لمن إشترك في مؤامرة الشواف في الموصل . وبعد إعدامهم في منطقة ( أُم الطبول ) قام القوميون العرب والبعثيون بإخراج هوسة :- اللهُ أكبر يا عرب شُبانة كتلوهم .. ما صارت إبكل الدول قاسم نذل سوّاها. يومها .. لم يكن الزعيم في وضع يُحسد عليه ، كان يتأرجح بين القوتين المتخاصمتين ، وكما يقول المثل : بين العجم والروم .. بلوة إبتلينه . في تشرين الأول 1959 ، وقعت المحاولة الفاشلة لأغتيال الزعيم في منطقة ( رأس القرية ) . في اليوم الثاني أطل الزعيم الأوحد من الشرفة وإحدى يديه مربوطة ومدلاة داخل قماشٍ معلق في رقبته وإبتسامته تملأ وجهه . وبيده السليمة راح يحيي جموع الشعب والتي كانت تهوِّس :- سبع ملايين تصيح .. فدوة لِِبِن قاسم . سلامات .. سلامات .. يا حبيب الملايين . إعدم .. إعدم .. جيش وشعب يحميك يا قائد الثورة . شلت الأيدي الأثيمة .. ماتت الروح اللئيمة . لم تكن تلك الجماهير تدري بأن زعيمها سيطلق سراح من حاول إغتياله ومعلناً قوله الشهير : عفا الله عما سلف !!!، ومن ضمن الهوسات يومذاك :- إشرب ماي وإنعل فهد .. ماكو شيوعي بالبلد . شعب شعب كُله بعث .. موتوا شيوعية . وكذلك صيحة ( جيبة ليلو) والتي خلفها قصة جنسية ذكورية لتشويه سمعة الزعيم قاسم ، أما المُضحك من الهوسات التي كان المتظاهرون يلجؤون لها عندما تُهاجمهم سرايا الشرطة فكانت :- إسأل الشرطي شيريد .. باكيت جگاير ودرهم جديد، وهي مُحرفة من هوسة :- إسأل الشعب ماذا يريد .. وطنٌ حرٌ وشعبٌ سعيد.
من عادة العراقيين في هوساتهم أن يصرخ من كان يريد إبتداء أو طرح هوسة جديدة أو إلقاء بضعة أبياتٍ شعرية ، بكلمة : ها خوتي ها ، فيجيبه الكل : ها ؟ عندئذٍ يقول ما يريد وينهيها بهوسة يرددها بعده الأخرين . وفي إحدى التظاهرات صرخ أحد العگالة :- ها خوتي ها ، أجابه الجمع : ها ؟ ، ثم قام بعض من يحيط به بحمله على أكتافهم ليهزج ، فصرخ بعلو صوته :- نزلوني وگعت قندرتي .. نزلوني و گعت قندرتي !. عندما تمر بخاطري اليوم بعض تلك الهوسات العقيمة الجارحة أسأل نفسي بحزن وأسى ولوعة :- أي وضعٍ مضحك وبائس ، كان ذلك الذي شاركنا بصنعه !!!؟ . في السنوات الأولى لثورة الرابع من تموز هوسنا وهزجنا وهتفنا ( مع ) أو ( ضد ) أسماء كثيرة : سوكارنو ، تشومبي ، خالد بكداش ( عاش الشعب السوري عاش .. بقيادة خالد بكداش ) ، بن بلا ، بومدين ، جميلة بوحيرد ، عبد الناصر ، ماوتسي تونغ ، هوشي منه ، هيلاسي لاسي ، نهرو ، جيفارا ، تيتو ، كاسترو ، خروتشوف ، نيكسون ، كاكارين ، محمد علي كلاي ، وتطول القائمة حتى تصل عدنان القيسي ومن هم على شاكلته !!! . كُنا متطرفين بتطرف ، وسلبيين بسلبية ، لا نؤمن بالأعتدال ، عادينا الفرح وألوان قوس قزح ، شعب مصاب بمرض الأنقسام بدل الألتمام ، شعبٌ يلهث خلف المفاضلات من كل نوع : علي أم عمر ، كردي أم عربي ، مسلم أم مسيحي ، سني أم شيعي ، أسود أم أبيض ، بعثي أم شيوعي ، روسي أم أميركي ، تركي أم إيراني ، قاسم أم عارف ، الكرخ أم الرصافة ، الأعظمية أم الكاظمية ، فريد الأطرش أم عبد الوهاب ، الشقرة أم السمرة ؟. اصابعنا كانت دائماً على الزناد ، والسياف في داخلنا على أهبة الأستعداد والتحفز والأستنفار . اليوم وبعد أكثر من نصف قرن ، نرى أن حماقاتنا السابقة واللاحقة قد قادتنا إلى معارك وحروب خسرتها كل الأطراف ، ولا زال شعبنا يدفع الثمن .
من عادة العراقيين في هوساتهم أن يصرخ من كان يريد إبتداء أو طرح هوسة جديدة أو إلقاء بضعة أبياتٍ شعرية ، بكلمة : ها خوتي ها ، فيجيبه الكل : ها ؟ عندئذٍ يقول ما يريد وينهيها بهوسة يرددها بعده الأخرين . وفي إحدى التظاهرات صرخ أحد العگالة :- ها خوتي ها ، أجابه الجمع : ها ؟ ، ثم قام بعض من يحيط به بحمله على أكتافهم ليهزج ، فصرخ بعلو صوته :- نزلوني وگعت قندرتي .. نزلوني و گعت قندرتي !. عندما تمر بخاطري اليوم بعض تلك الهوسات العقيمة الجارحة أسأل نفسي بحزن وأسى ولوعة :- أي وضعٍ مضحك وبائس ، كان ذلك الذي شاركنا بصنعه !!!؟ . في السنوات الأولى لثورة الرابع من تموز هوسنا وهزجنا وهتفنا ( مع ) أو ( ضد ) أسماء كثيرة : سوكارنو ، تشومبي ، خالد بكداش ( عاش الشعب السوري عاش .. بقيادة خالد بكداش ) ، بن بلا ، بومدين ، جميلة بوحيرد ، عبد الناصر ، ماوتسي تونغ ، هوشي منه ، هيلاسي لاسي ، نهرو ، جيفارا ، تيتو ، كاسترو ، خروتشوف ، نيكسون ، كاكارين ، محمد علي كلاي ، وتطول القائمة حتى تصل عدنان القيسي ومن هم على شاكلته !!! . كُنا متطرفين بتطرف ، وسلبيين بسلبية ، لا نؤمن بالأعتدال ، عادينا الفرح وألوان قوس قزح ، شعب مصاب بمرض الأنقسام بدل الألتمام ، شعبٌ يلهث خلف المفاضلات من كل نوع : علي أم عمر ، كردي أم عربي ، مسلم أم مسيحي ، سني أم شيعي ، أسود أم أبيض ، بعثي أم شيوعي ، روسي أم أميركي ، تركي أم إيراني ، قاسم أم عارف ، الكرخ أم الرصافة ، الأعظمية أم الكاظمية ، فريد الأطرش أم عبد الوهاب ، الشقرة أم السمرة ؟. اصابعنا كانت دائماً على الزناد ، والسياف في داخلنا على أهبة الأستعداد والتحفز والأستنفار . اليوم وبعد أكثر من نصف قرن ، نرى أن حماقاتنا السابقة واللاحقة قد قادتنا إلى معارك وحروب خسرتها كل الأطراف ، ولا زال شعبنا يدفع الثمن .
جمع واعداد / خالد عوسي
هناك تعليق واحد:
جميل
إرسال تعليق