الجمعة، 16 مايو 2014

هل الملك (فيصل الثاني) - دُمْيَة ، رجعي ، عميل - وِفْقَ (سياسة الممكن) ؟


في سنة 1956 كنت أحد خريجي كلية التجارة والإقتصاد ، كما كان إسمها آنذاك ، تقرر أن تجري لنا حفلة رسمية لتوزيع شهادات التخرج يحضرها الملك فيصل الثاني تقام في حديقة القاعة المسماة باسمه والتي بنيت على أحدث نظام وسميت لاحقا بـ (قاعة الشعب) مغلفة بالخشب الصاج ومدفأة بـ ( الفاير بليس ) ويستقبلك عند المدخل التشريفياتي ليستلم المعطف أو القبعة أو السدارة أو ما شابهها ! والإنارة والموسيقى التصويرية كأحدث ما يمكن وأكثر تمثليات فرقة المسرح الحديث بقيادة الأستاذ (يوسف العاني) كانت تجري فيها وقد حضرت أكثرها . أما هذه الأيام . ايام السواد والخراب والغم والتكلم بالديمقراطية بملء الفم ! الذي أصبح شعار " الدولة " فلا أعرف مصير تلك التحفة وأٌقصد تلك القاعة . كانت حديقة جميلة تتكون من حلقات نصف دائرة من الياس والورود وبين تلك الحلقات جلسنا ببدلة التخرج المعروفة وكان عددنا بحدود ( 50 ) خريجا ، وجلس الملك فيصل الثاني في صدر الحديقة المقابل للقاعة والى يمينه وزير المعارف خليل كنه على ما أذكر وعميد الكلية الإنسان الطيب د. بديع شريف . لم أجد أمام الملك غير منضدة بسيطة عليها غطاء ابيض دون أن يكون أمامه باقات من الورود والزهور كما " لسياسيي " اليوم بل نسخ من الشهادات ليوزعها علينا فرداً فرداً ، كان العميد يقرأ اسم الخريج ونذهب الى الملك ويصافحنا مع إبتسامة وصوت رفيع خافت بالكاد كان يسمع كصوب االبنات ويقول :" مبروك " ويسلمنا الشهادة ثم نرجع الى مكاننا والتلفزيون ينقل الحفل على الهواء مباشرة . ولحظة المصافحة يلتقط المصور أرشاك صورة شخصية لكل خريج لتبقى ذكرى للتاريخ ، وكان المصور أرشاك أشهر مصور فوتوغرافي في تلك الايام وكان مصور الملوك والرؤساء . وبعد إنتهاء توزيع شهادات التخرج العامة ، قال العميد : هناك جوائز فرعية تبرعت بها بعض المؤسسات الحكومية والأهلية للأوائل في المادة التي تخص المؤسسة ، والأولى كانت من نصيب الزميل حنا تسلمها وعاد الى مكانه وكذلك الثانية وعندما علم الملك أن كلها من حصته الأخ حنا ! هنا قال الملك : " ألأخ حنا . ليش تتعب تروح وتجي . تعال إجلس يمنا حتى تكون قريب علينا لتسلم بقية الجوائز لأن كلها من حصتك " !! وإنتقل الزميل الأخ ( حنا ) من مكانه وجلس قرب الملك ليواصل تسلم بقية جوائزه من يد الملك .! لم يقلها الملك كأمر أو من خلال مأمور أو مناد ولا كأمر ملكي ولا ككلام موجه لغريب أو شخص نكرة بالنسبة الى الملك كعادة الملوك والرؤساء أو يوعزون على مساعديهم أن يدعو فلان وفلتان حتى من الوزراء بل قالها كأنه صديق وزميل له : " الأخ حنا . تعال أجلس يمنا ." وحاشا أن يستخف به أو يستصغره فقد كان الملك في منتهى الخلق والكياسة . وإنتهى الإحتفال بكل هدوء كما بدأ ونقل عبر التلفزيون نقلا مباشرا ، وأعتقد كان أول تجربة للنقل المباشر .كما كان أول تلفزيون في المنطقة آنذاك . لم أشاهد بباب القاعة لا جنود مدججين بالسلاح وببدلة قتال !! ولا شرطة في داخل القاعة كل شيئ هادئ كأننا كنا في حفلة عائلية ، وبالرغم من كل هذا كنا ننظر الى الملك والى من حوله أنهم رجعيون عملاء مسيَّرون !!! لأن تثقيف الأحزاب أنذاك و دون أستثناء : " ألا نحسن الظن بالرجعية والإستعمار " ونحن كنا تلاميذ في تلك الأحزاب ، تلك الأحزاب التي وعدونا : أن بنهاية هؤلاء يتحول العراق الى دولة تنافس أرقى الدول العالمية في علمه وثقافته وثرواته الوفيرة ومياهه الغزيرة . ولم نكن نتصور أن تأتي هذه الأيام . كلها ظلم وآثام . وقتل وإتهام . صراع وإنقسام . منهم غرباء ومنهم أيتام بلا أوطان . يتنافسون على النهب والسلب دون مقاييس ولا أوزان . يبيعون ما يمكن بيعه للجيران . اليوم ينافس كل دول العالم في فساده وآثامه والشعب العراقي ينافس بقية الشعوب بفقره وشقائه وآهاته .!! حتى تحول العراق الى دولة فاشلة بل لا دولة ولا نظام ولا احترام . وبعد ايام بدأ الطلاب الزملاء يتسلمون صورهم الشخصية التذكارية بالتخرج وبمصافحة الملك من مرسم المصور أرشاك ، لتعلق في بيوتهم فرحين فخورين بها إلا البعض منا وأنا أحدهم !! لم نستلم صورنا الشخصية من المصور أرشاك كي لا نُتهم بأننا نفتخر بمصافحة الملك الرجعي والدمية بيد الإستعمار ونوري السعيد العميل! بل كنا نقول لا يزيدنا شرفاً أن نصافح ملكاً عميلاً ليس إلا دمية بيد الإستعمار !!! وأزيد على ذلك ، كثيرا ما كنا نصادف الملك " العميل " أو " الدمية " ! وهو في سيارته في شارع الرشيد تسبقه كوكبة من راكبي الماطورات و كل ما تقع عينه على أحد المارة يرفع يده ويسلم مع إبتسامة من خلف زجاج السيارة وأحيانا نتجاهله لكونه ملكا رجعيا عميلا !! وكم تجاهلنا سلامه وإبتسامته !!!. في التسعينات تعرفت على شخص أرمني قال لي : لا زلت نادما عندما تجاهلت تحية الملك وهو في سيارته ، أدرت وجهي كي لا أردت التحية لأنه ملك رجعي عميل !! كم كنا أطفالاً في السياسة الشيوعيون .. كنا نريده ملكا ماركسيا ! والبعث كانوا يريدونه ملكا عفلقيا ! والقوميون كانوا يريدونه ملكا ناصريا يقدم العراق هدية لعبد الناصر ليصنع وحدة عربية بعد أن يلقي اليهود في البحر !! والأكراد أرادوه ملكا يعطيهم حكما ذاتيا أكثر أستقلالا من الدولة نفسها أما الإسلاميون فكانوا يريدونه ملكا دينيا على منوال وسيرة جده رسول الله صلى الله عليه و سلم ، ولكن للحقيقة والتاريخ لم يكن بإمكانه أن يعمل أكثر مما عمل , ولكن هو ووزراءه اصروا أن يكونوا ساسة عراقييون بأمتياز. اسسوا و بنوا بلدا بالرغم من الصعوبات التي ذكرها الملك فيصل الأول التي كانت تقترب من المستحيل ، كان حكام العهد الملكي يسيرون وفق سياسة الممكن وامتنعوا عن السير بسياسة طفر الموانع وتخطي المواقع أو القفز في المجهول! فكان العراق سباقا لكل دول ودويلات المنطقة . واليوم يقف العراق سبّاقاً في الفساد والتخلف . حقا قالوا : لا تعرف خيري .... حتى تجرّب غيري .

جمع واعداد: خالد عوسي

ليست هناك تعليقات:

أحدث مقال

جسر ونهر الخر (الشْطَيِطْ)

  جسر ونهر الخر (الشْطَيِطْ) . الصورة : ملتقطة من جهة ساحة النسور ، وعلى اليسار (قصر الرحاب) وعلى اليمين (قصر الزهور) الذي لم يظهر . شيد الع...