قال الوالد رحمه الله سأحكي لكم هذه الطريفة التي مرت بي يوما من أيام سنوات الأربعينيات. كنت ضابط الخفر في مطار الهويدي حيث مقر طائرات القوة الجوية العراقية حينئذ, وكان يوما رتيبا من أيام الخميس الذي كنا نحن الضباط نضطر لقضائه في المطار بسبب المسؤولية.كان اليوم مكروها والضباط مع عوائلهم يقضون عطلة نهاية الإسبوع وأنا وضابطين معي في المعسكر لوحدنا مع الجنود والمراتب مشغولون بتنظيف وتزييت الطائرات القديمة في أربعينيات القرن الماضي.جاءت مكالمة من بوابة القاعدة (الرشيد) تفيد بوصول مسؤول مهم, لم يعلنوا عنه فتذمرنا نحن الضباط من هذه الزيارة ومن يقوم بها اليوم وفي هذه الساعة من الظهر.وقفنا أمام المكتب بإنتظار الشخصية التي وصلت بالسيارة وبدون حراسات وفتح الباب وترجل الباشا نوري السعيد رئيس الوزراء منها وفوجئنا بهذه الزيارة غير المتوقعة أو التي لم يعلن عنها بعد ظهر يوم الخميس.ترجل الباشا ونظر إلي وقال, رؤوف بيگ عندك طيارة جاهزة للإقلاع ؟نعم سيدي الباشا. كم دقيقة ونملأ الخزان بالوقود.ووقف معنا ينتظر ولا أحد يسأله عن المهمة ومن سيذهب ومتى بل إنتظرنا أن يبدأ هو الكلام.رؤوف بيگ يالله خذ لك واحد من الطيارين معك ونطير إلى السليمانية.نعم سيدي الباشا .بدأنا تجهيز الطائرة وكأن على رؤسنا الطير وكنت لا أتأمل خيرا من هذه الزيارات والطلعات السرية والمفاجئة بعكس ما كان يحدث أيام المرحوم الملك غازي. الملك غازي كان إبن صنفنا ويتبسط ويتسلى بالمجيء والسهر معنا نحن ضباط القوة الجوية, بعكس من ضباط الجيش الذي كان قدر الإمكان أن يتحاشا الميانة معهم.جهزت الطائرة و الباشا يتفرج علينا ونحن نجهزها ونتفانى في التحضير لها وركبنا الطائرة وطرنا بها نحو السليمانية, التي وصلناها بدون مشاكل في الجو تذكر.وجدنا في المطار على مشارف المدينة ضابط القاعدة ومتصرف اللواء بإنتظار الطائرة والضيف . تركنا الطائرة وإتجهنا مع الركب بناء على رغبة الباشا الذي رافقه متصرف اللواء (المحافظ) بالسيارة وسرنا خلفهم بالسيارة التابعة ووصلنا المتصرفية وبعد إنتظار بعض الوقت الذي إجتمع فيه رئيس الوزراء بالمتصرف تحركنا نحو بيت المتصرف.دخلنا حديقة البيت الرحبة وجلس الجميع يتسامرون وقد عض الجوع بطوننا بإنتظار طعام العشاء الذي مضى وقته, و الباشا يتسامر وينكت مع المتصرف, وبطوننا تصفر من الجوع.كنت أتساءل مع جليسي عن شكل ونوعية وأصناف الأكل الذي سيقدمونه للضيوف لقضاء الوقت وأخيرا جاء الأكل وإذا به من أصناف وأنواع عديدة من المأكولات ووقعت عيننا على كباب سليمانية والذي كان الباشا من عشاقه.بدأت الأكل من الكباب, وبصورة لا إرادية أخبرت زميلي الضابط الذي يجاورني على الطاولة بأن هذا الكباب مو أحسن من كباب كاكه حمة في السوق.وكنا بين الحين والآخر نزوغ من بغداد لنأتي إلى السليمانية ونعود بنفس اليوم في رحلة تدريبية, بعد أن نذهب لمحل كاكة حمة لأكل كباب السوق المشهور.سمع الباشا تعليقي الذي جاء بصوت عال وسألني مباشرة:هل هذا صحيح رؤوف بيگ؟؟؟فإعتذرت من الباشا والمتصرف على هذه الهفوة, خاصة وإن بيت المتصرف وعائلته هم الذين جهزوا وطبخوا الكباب في البيت. وإنتهت الحفلة وأنا خجل من المتصرف و الباشا وهفوة الكباب.طلب منا الباشا المكوث في القاعدة لليوم التالي والقدوم مساء على العشاء, وهكذا كان.كان العشاء كبابا كالعادة وقامت نساء بيت المتصرف بأخذ الحيطة وعمل المستحيل ليطلع الكباب أحسن من مال السوق.جلسنا للأكل وبعد تذوق لقمة أو إثنتين فوجئت بالباشا وهو يوجه الحديث لي.رؤوف بيگ شنو رأيك بالكباب اليوم؟أجبته فورا وأنا مستعد للسؤال, سيدي الباشا , هذا الكباب لا يعلا عليه.جاءني الجواب بكل حزم, لا تنافق رؤوف بيگ وقل الحقيقة هل هذا الكباب أحسن أم كباب السوق؟إحمرَّ وجهي ولم أستطع بلع اللقمة ثم بعد لحظات قلت له سيدي الباشا مع الإعتذار للمتصرف , كباب كاكة حمة أطيب. قلت هذه الجملة رغما عني وفي داخلي أكفر باليوم الذي صحبنا به الباشا في هذه السفرة المنكودة .كانت الجلسة سقيمة والمتصرف ينظر لي من زاوية عينه ونفسه تقول من أين الله جاب هذا غير الرؤوُف؟؟بتنا الليلة الثانية وكنا بإنتظار الباشا للرجوع إلى بغداد صباح السبت وإذا بخبر من الباشا يقول إنتظروا يوما آخر بناء على رغبة المتصرف.طلبنا الباشا ونحن متلكئون على الذهاب معه للعشاء في بيت المتصرف وللمرة الثالثة وياللطامَّة السوداء.دخلنا حديقة البيت وفوجئنا بوجود كاكا حمه بشحمه ولحمة , كبابچي السوق واقفا في جانب من الحديقة وهو يقوم بتحضير الكباب هناك . جلسنا للعشاء وجاءوا بالكباب للباشا. فقال للنادل خذ هذا الكباب لرؤوف بيگ وخجلت من نفسي وقد جاء صحن الباشا لي لتجربته وإبداء الرأي!!!تذوقت الكباب ولا إراديا قلت للحاضرين , هذا كباب سليمانية الصدك.أخذ الباشا قطعة منه ثم تذوقها وقال للمتصرف:لا تعزمني بعد اليوم على كباب البيت بل هات لي كاكا حمه ليعمل الكباب في الحديقة.ضحك الجميع وسهرنا للفجر ورجعت مع الباشا لبغداد ومعي أطيب ذكرى لكباب السوق من السليمانية.
إقتباس بتصرف/ليث رؤوف حسن ... مقالة: نوري السعيد و كباب سليمانية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق