المقال : إقرأ على العراق السلام .
الصورة : من الصور القليلة التي تجمع بين الباشا (نوري سعيد) و الزعيم (عبد الكريم قاسم) . منتصف الخمسينات .
لقد روي عن نوري سعيد أنه ظلّ يردد قبل مقتله في 15تموز 1958 ما فحواه “اقرأ على العراق السلام إن نجح العسكر بهذا الانقلاب” مشيراً إلى” ثورة 14 تموز 1958″. لم يخطر ببالي أن أعير هذه الرواية أي اهتمام آنذاك، إذ كنت – كغيري من ملايين العراقيين – مغموراً بطوفان من النشوة والثقة والفخر لقيام الثورة المذكورة وسقوط ما اعتدنا وصفه بـ “العهد البائد أو المباد”، بل كنت استخف بها استخفافاً كبيراً لا بسبب نظرتي السلبية لسياسة نوري سعيد واقترانه الوثيق بالاستعمار البريطاني فحسب بل لتفاؤلي إلى حدّ الإسراف (أو السذاجة في نظري اليوم) ببداية عهد جديد يعد بازدهار العراق ويكفل لمواطنيه قسطاً أكبر من الحريات والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والأمان. غير أن هذه الرواية سواء كانت حقيقية أم مختلقة (كالشائعات المتشائمة الاخرى) ظلت تطاردني وأنا في المغترب كلما تعرض العراق لمحنة ، وما أكثر ما تعرض له من محن منذ مقتل نوري سعيد حتى يومنا هذا – متسائلا عما كان يدور في خلده عند ما فوجىء بقيام ثورة 14 تموز لقد مرّ العراق منذ تأسيسه الحديث [1921] حتى يومنا هذا (2008) في مرحلتين كبريين: امتدت أولاهما [37] عاماً قبل مقتل نوري سعيد [1921- 1958] ومضى على الأخرى نصف قرن،- خمسون عاماً مما يسمى بالحكم الجمهوري- (1958-2008)، وقد شهد العراق خلالهما هزات ومآسي متعددة ، غير أن ما عاناه من المحن في المرحلة الأولى لا يمكن أن يقاس بما حل به (بعد مقتل نوري سعيد) من المحن والمجازر والاغتيالات الجماعية، والحروب وأساليب القمع الوحشي والخراب اللا محدود في مختلف النواحي والتشرد الكوني للملايين من أبنائه حتى ليخيل إلي أن نوري سعيد لم يكن على ضلال بل كان بعيد النظر في التعبير عن نبوءته (اقرأ على العراق السلام) إن صحّ أن تنسب إليه. إن ما يهمني من ذلك ليس إطلاق الأحكام على نوري سعيد أو على العهد الملكي أو النظام الجمهوري بمراحله المتباينة، بل التساؤل – وقد يكون عبثاً التساؤل- عما دفع نوري سعيد إلى أن يقرأ على العراق السلام آنذاك.. أكان السبب عدم ثقته بالانقلابات العسكرية أو قدرة الجيش على إدارة البلاد؟ أو خوفه من تعاقب المغامرات العسكرية أو الحزبية الضيقة الأفق التي لا تدرك طبيعة الكيان الفسيفسائي للعراق؟ أكان الدافع إيمانه بأن “العهد المباد” كان في طريقه إلى ترسيخ هوية للعراق تتجاوز انتماءات مواطنيه المختلفة قومياً ودينياً ومذهبياً وعشائرياً ولغوياً؟ هل كان يتوقع أن يتعرّض العراق لمؤامرات إقليمية أو غير إقليمية يسفر عنها هذا التمزق أو التناحر العنيف الذي بدأنا نشهده اليوم والاقتتال الهمجي بين المواطنين من عرب وأكراد وتركمان و كلدان وغيرهم من الأقليات القومية أو من [مسلمين شيعة وسنة] ومسيحيين وصابئة ويزيديين( إيزيديين) وغيرها من الانتماءات التي حاولت “الهوية العراقية” أن تتجاوزها أو تحقق لها التعايش البنّاء المتآخي حقاً ؟ و أخيرا: هل كان يخشى أو يظن أن يكون بين وارثيه من يجرأ على أن يفوقه استعانة بالأجنبي . تارة يتآمر معه في السر و الخفاء و تارة أخرى يبارك له غزوه جهاراً في وضح النهار؟ ليس من اليسير في حقيقة الأمر أن نكشف عما كان يدور في خلد نوري سعيد عندما أطلق قبل خمسين عاما المقولة المنسوبة إليه ” اقرأ على العراق السلام…” ولكنّ من اليسير القول بأن عراق اليوم يذكرك بأطلال الشاعر الجاهلي يقف عليها باكياً ملتمساً فيها العزاء حين لا يجدي نفعاً بكاءٌ أو عزاء وقد يثيرلديك تساؤلات شتى كتساؤل شاعر العراق الكبير (بدر شاكر السياب) يناجي وطنه و هو في مغتربه الكويتي :- إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون ! أيخون انسان بلاده ؟ ان خان معنى أن يكون ، فكيف يمكن أن يكون؟ . من خواطرالعربي المغترب أ. د. صالح جواد الطعمة * جامعة إنديانا. بلومنجتن / انديانا 2008 . إقتباس بتصرف
الصورة : من الصور القليلة التي تجمع بين الباشا (نوري سعيد) و الزعيم (عبد الكريم قاسم) . منتصف الخمسينات .
لقد روي عن نوري سعيد أنه ظلّ يردد قبل مقتله في 15تموز 1958 ما فحواه “اقرأ على العراق السلام إن نجح العسكر بهذا الانقلاب” مشيراً إلى” ثورة 14 تموز 1958″. لم يخطر ببالي أن أعير هذه الرواية أي اهتمام آنذاك، إذ كنت – كغيري من ملايين العراقيين – مغموراً بطوفان من النشوة والثقة والفخر لقيام الثورة المذكورة وسقوط ما اعتدنا وصفه بـ “العهد البائد أو المباد”، بل كنت استخف بها استخفافاً كبيراً لا بسبب نظرتي السلبية لسياسة نوري سعيد واقترانه الوثيق بالاستعمار البريطاني فحسب بل لتفاؤلي إلى حدّ الإسراف (أو السذاجة في نظري اليوم) ببداية عهد جديد يعد بازدهار العراق ويكفل لمواطنيه قسطاً أكبر من الحريات والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والأمان. غير أن هذه الرواية سواء كانت حقيقية أم مختلقة (كالشائعات المتشائمة الاخرى) ظلت تطاردني وأنا في المغترب كلما تعرض العراق لمحنة ، وما أكثر ما تعرض له من محن منذ مقتل نوري سعيد حتى يومنا هذا – متسائلا عما كان يدور في خلده عند ما فوجىء بقيام ثورة 14 تموز لقد مرّ العراق منذ تأسيسه الحديث [1921] حتى يومنا هذا (2008) في مرحلتين كبريين: امتدت أولاهما [37] عاماً قبل مقتل نوري سعيد [1921- 1958] ومضى على الأخرى نصف قرن،- خمسون عاماً مما يسمى بالحكم الجمهوري- (1958-2008)، وقد شهد العراق خلالهما هزات ومآسي متعددة ، غير أن ما عاناه من المحن في المرحلة الأولى لا يمكن أن يقاس بما حل به (بعد مقتل نوري سعيد) من المحن والمجازر والاغتيالات الجماعية، والحروب وأساليب القمع الوحشي والخراب اللا محدود في مختلف النواحي والتشرد الكوني للملايين من أبنائه حتى ليخيل إلي أن نوري سعيد لم يكن على ضلال بل كان بعيد النظر في التعبير عن نبوءته (اقرأ على العراق السلام) إن صحّ أن تنسب إليه. إن ما يهمني من ذلك ليس إطلاق الأحكام على نوري سعيد أو على العهد الملكي أو النظام الجمهوري بمراحله المتباينة، بل التساؤل – وقد يكون عبثاً التساؤل- عما دفع نوري سعيد إلى أن يقرأ على العراق السلام آنذاك.. أكان السبب عدم ثقته بالانقلابات العسكرية أو قدرة الجيش على إدارة البلاد؟ أو خوفه من تعاقب المغامرات العسكرية أو الحزبية الضيقة الأفق التي لا تدرك طبيعة الكيان الفسيفسائي للعراق؟ أكان الدافع إيمانه بأن “العهد المباد” كان في طريقه إلى ترسيخ هوية للعراق تتجاوز انتماءات مواطنيه المختلفة قومياً ودينياً ومذهبياً وعشائرياً ولغوياً؟ هل كان يتوقع أن يتعرّض العراق لمؤامرات إقليمية أو غير إقليمية يسفر عنها هذا التمزق أو التناحر العنيف الذي بدأنا نشهده اليوم والاقتتال الهمجي بين المواطنين من عرب وأكراد وتركمان و كلدان وغيرهم من الأقليات القومية أو من [مسلمين شيعة وسنة] ومسيحيين وصابئة ويزيديين( إيزيديين) وغيرها من الانتماءات التي حاولت “الهوية العراقية” أن تتجاوزها أو تحقق لها التعايش البنّاء المتآخي حقاً ؟ و أخيرا: هل كان يخشى أو يظن أن يكون بين وارثيه من يجرأ على أن يفوقه استعانة بالأجنبي . تارة يتآمر معه في السر و الخفاء و تارة أخرى يبارك له غزوه جهاراً في وضح النهار؟ ليس من اليسير في حقيقة الأمر أن نكشف عما كان يدور في خلد نوري سعيد عندما أطلق قبل خمسين عاما المقولة المنسوبة إليه ” اقرأ على العراق السلام…” ولكنّ من اليسير القول بأن عراق اليوم يذكرك بأطلال الشاعر الجاهلي يقف عليها باكياً ملتمساً فيها العزاء حين لا يجدي نفعاً بكاءٌ أو عزاء وقد يثيرلديك تساؤلات شتى كتساؤل شاعر العراق الكبير (بدر شاكر السياب) يناجي وطنه و هو في مغتربه الكويتي :- إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون ! أيخون انسان بلاده ؟ ان خان معنى أن يكون ، فكيف يمكن أن يكون؟ . من خواطرالعربي المغترب أ. د. صالح جواد الطعمة * جامعة إنديانا. بلومنجتن / انديانا 2008 . إقتباس بتصرف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق