الجمعة، 13 ديسمبر 2013

ذكرياتي الجميلة عن مدينتي الساحرة (ألأعظمية)



صورة جامع أبو حنيفة عام ١٩٥٩ 

هذه هي ذكرياتي الحية عن محلة الأعظمية ؛ او لنقل عن مدينة الأعظمية العريقة ؛ والتي أختزنتها ذاكرتي أثناء نشأتي ألأولى ؛ عن مكانتها المرموقة بين سكان مدينة بغداد وعن تراثها ألأصيل في مجالات عدة ؛ وكذلك عن الشخصيات البارزة التي سكنتها منذ عشرات بل ومئات السنين. فهي من المدن التاريخية العريقة التي عرفت على مستوى العالمين العربي والإسلامي بوجود ضريح (ألإمام ابي حنيفة النعمان) وبعدد من المدارس والجامعات الدينية الشهيرة وكذلك الكثير من الشخصيات المرموقة التي احتلت مواقع دينية وعلمية وثقافية وسياسية وعسكرية . ففي مراحل نشأتي ألأولى ودراستي الأولية دخلت مدرسة (تطبيقات دار المعلمين ألأبتدائية) عام1938. والتي كانت ترتبط بـ (دار المعلمين ألإبتدائية). وكانت هذه الدار تقع بالقرب من (المقبرة الملكية) التي تميزت بطرازها المعماري العربي – ألإسلامي الجميل (أصبحت فيما بعد مقرا لجامعة صدام الإسلامية) وقد سنحت لنا الفرصة لنتعلم فن الرسم ونتدرب في مرسمها الفسيح على يد الفنان الراحل ألأستاذ الفاضل ( قاسم ناجي). فكان يمدنا ؛ وبسخاء ؛ بألأقلام واوراق الرسم وألألوان والمستلزمات الضرورية الاخرى ؛ فضلا عن إرشاداته الفنية القيمة التي كان يوجهها الينا اثناء الاداء وحتى عن الكيفية التي يتم فيها إقتراح موضوعات الرسم وإعداد المواد والاضاءة الضرورية ومتابعته المتواصلة لإعمالنا . وبعد أن أنهيت المرحلة الإبتدائية عام 1944دخلت مدرسة (ثانوية ألأعظمية للبنين) ؛ ومن ثم التحقت بـ (كلية ألآداب والعلوم) التي تخرجت فيها عام 1954 كل هذه المدارس والكلية وحتى الكلية التي عملت بها بعد التخرج كانت في مدينة الاعظميه الراقية. ومما أتذكره عن تلك ألأيام الجميلة التي قضيتها في مدرسة ( ألتطبيقات) أننا كنا ؛ نحن الطلاب ؛ نسلك طريقا خاصا يربط ما بين (المدرسة) و( الدار) حيث تمتد على جانبيه ألأشجار الباسقة والزهور الجميلة التي تنشرعطورها الفواحة في كل مكان وبخاصة ورد الجوري (والرازقي) الذائع الصيت . ومن النشاطات أللاصفية الممتعة التي كنا نمارسها تهيئة متطلبات الحانوت المدرسي بأنفسنا إستعدادا لليوم التالي. هذا إضافة الى أعما ل وممارسة هوايات أخرى نقوم بها تحت إشراف ألأستاذ الملهم المرحوم (ابراهيم عبد الوهاب) كالرسم والنحت والتصوير الفوتوغرافي واعمال النجارة وسواها. كانت دارنا تقع في محلة (النصة) في الشارع الذي يربط محيط ألإمام (ابي حنيفة) بشارع (عشرين) المعروف مرورا بمنطقة (النزيزة). وكان يسكن الى جوارنا المدعو (حمدون) الذي كان يعمل في الدباغة وولده (قدوري) مصلح السيارات. وكان يسكن قريبا من دارنا أيضا الشيخ علي( ابو احمد) الذي يمتهن كتابة الأدعية والحروز للنساء ؛ والى جواره دار (ناصح) الملقب بأبي فائق. وكان يعمل حوذيا ؛ حيث يترك الحصانين وعربته الجميلة عند باب الدار والتي علقت عليها أنواع الزينة لجذب الزبائن ولفت ألأنظار. وكان من ابرز الجيران في ذلك الوقت العسكري المتألق والخطاط الشهير المرحوم (صبري) المعروف على نطاق واسع بـ (صبري الخطاط) والذي درست على يديه فن الخط العربي الجميل. وكان يصرف جهدا مشكورا في متابعة إنجازاتي للواجبات التي يكلفني بها ويرشدني الى الهفوات اوالأخطاء التي اقع فيها وكيفية تداركها ؛ ومن ثم يكلفني بواجب جديد.
وكان من ابرز أصدقائنا عالم الآثار المعروف المرحوم (صبحي أنور رشيد). وكان هناك ايضا السيد محمد عبد الجبار زميل الدراسة الجامعية وأخوه الكبير القاضي سلمان عبد الجبار وألأصغر كريم. وقد كان معي أيضا أثناء الدراسة (وليد عبد الحميد نوري) وهو شقيق الفنان المسرحي المعروف الأستاذ (سامي عبد الحميد . وكانت هوايتنا المحببة المشي لساعات طويلة بإتجاه (الصليخ) ومناطق (شارع الضباط) و(الكم) حتى نصل منطقة (الكسرة). وعند عودتنا نأخذ قسطا من الراحة فندلف الى (النادي الأولمبي) الذي يقع اليوم في (ساحة عنتر). وكان البعض منا يطفئ ظمأه بزجاجة من المياه الغازية بينما يفضل البعض الآخر الإستمتاع ببعض الاكلات العراقية الشهيرة. وقد أتخذ النادي الأولمبي مقرا لإقامة المعارض الفنية. وأتذكر جيدا اليوم الذي اقيم فيه (معرض الثورة) في اعقاب ثورة 14 تموز والذي افتتحه الزعيم (عبد الكريم قاسم). وقد شارك فيه معظم الفنانين من الرواد ؛ وفي مقدمتهم (أكرم شكري) و(عطا صبري) و(حافظ الدروبي) و(اسماعيل الشيخلي) و(جواد سليم) وغيرهم العشرات من الفنانين والهواة.
وكانت هناك أيضا (الجمعية البغدادية) التي تعد من النوادي الإجتماعية الشهيرة التي تتميز بأجوائها الهادئة وبهوائها العليل ؛ بالنظر لأنتشار الأشجار الكثيفة في حدائقها الجميلة ؛ وخصوصا اشجار النخيل الباسقة ولانخفاض مستوى ساحاتها وقربها من النهر. وبالإضافة الى ذلك كانت فيها صالة لعرض الأفلام شتاء. اما في موسم الصيف فكانت تعرض الأفلام في حدائقها الفسيحة. ويتذكر كثير من رواد الجمعية الشخص الملقب بأبي (تحرير) والذي كان المسؤول الإداري عن الجمعية وكذلك السيد (عزيز) المسؤول عن تقديم المأكولات والمشروبات. وكان من بين نشاطات الجمعية إقامة الحفلات الغنائية التي كان يحييها الفنان الكبير (يوسف عمر) الذي كان صوته يصدح حتى ساعة متأخرة من الليل. كما ساهم في إحياء الحفلات الفنان ذو الطابع البدوي (سعدي الحديثي) وغيره من الفنانين المعروفين. ولم تخل الحفلات من الحفلات الراقصة على الحان اشهر الفرق الموسيقية التي كان يستمتع بها المشاركون. اشتهرت مدينة الأعظمية بأسواقها الشعبية التي تعرض للناس كل ما يحتاج اليه اهلها من مواد وخضر وفواكه وحبوب وبقوليات ولحوم. فهناك القصاب المعروف (سبع) الذي كان يقدم الى زبائنه أجود أنواع اللحوم الطازجة. كما عرفت بمقاهيها التي كانت ملتقى لعدد من المغنين والموسيقيين المعروفين كالفنان (يوسف عمر) والفنان المحبوب (شعوبي ابراهيم) وغيرهما.
وإذا ما غادرنا السوق بإتجاه نهر دجلة ؛ مارين بقصر الوجيه (ناجي الخضيري) ينتصب امامنا قصر الشيخ (بلاسم الياسين) ودار الدكتور (كمال السامرائي). وكان هناك في الجانب الآخر بناية (الجمعية البغدادية) التي كانت قبل ذلك دارا للسياسي المعروف (أرشد العمري) على ما أظن. ثم يلي ذلك الشارع المؤدي الى (كلية بغداد) ودار الفنان (جواد سليم). ويمكننا ان نتجه من بناية (الجمعية) لنشاهد دارالسياسي المعروف (رشيد عالي الكيلاني). ويؤدي بنا هذا الشارع كذلك الى (ساحة الطبقجلي) والى دار المرحوم الفريق صالح مهدي عماش .

 وإذا عدنا الى بناية مسجد (أبي حنيفة) نجد هناك طريقا يحاذيها ويؤدي الى ( الجسر الخشبي) العائم. وكان الى جانب الجسر مقهى شعبي كبير يرتاده الفنانون والكتاب والشعراء وفي طليعتهم شاعر العراق الكبير ( معروف الرصافي). ونشاهد على امتداد ضفة نهر دجلة الخالد وعلى مقربة من الجسر ومقابل ما يسمى (المسناية) ؛ صف من البيوت البغدادية ذات الطراز البغدادي الجميل ؛ نذكر منها الدار العائدة الى (مجيد علاوي) والد كل من (موسى) و(محمد علي) ودار (صالح زكي) ودار اسماعيل الصفار) ؛ والد كل من (غانم) و(هاني) و دار القاضي الشهير عبد العزيز الخياط) ؛ والد كل من (يونس) و(عامر) ؛ ثم يأتي دار (الوادي). وإذا ما استمرينا في السير على طول (السدة) المحاذية للنهر نشاهد انتشار المروج والبساتين الغناء التي حوت الوان الفاكهة اللذيذة والمزروعات المألوفة. ومن المشاهد الجميلة التي تأسر القلوب انتشارمزارع الخضراوات على شاطئ النهر تتخللها (العرائش) المسماة بـ (الجراديغ) التي إتخذ الناس منها ملاذات للراحة وألإستجمام واللهو البرئ في موسم الصيف. ونجد هناك ايضا الساحة المجاورة لدار (عثمان نوري). ونحن نسير بإتجاه (الكسرة) نشاهد دارالسياسي المعروف (الدكتور فاضل الجمالي).
وتنتشر في منطقة (الكسرة) البساتين الجميلة التي تقع خلف بناية ( البلاط الملكي) الذي تحول الى مقر (للنادي العسكري). ونحن نسير بإتجاه ساحة (باب المعظم) ؛ وبمحاذاة نهر دجلة ؛ تواجهنا محلة (العلوازية اوالعيواضية) بقصورها الجميلة التى تعود الى علية القوم منذ قيام الحكم الوطني في العراق. والى جوارها تقع بناية (نادي المحامين) الذي يأمه القضاة والمحامون والكتاب والشعراء والفنانون وغيرهم. وعند نهاية محلة (العيواضية) تبدأ أبنية المجموعة الطبية وهي كلية الطب وطب الأسنان والصيدلة والطب العدلي والمختبر الكيمياوي والمستشفى الجمهوري التي كانت تسمى قبل ذلك (مستشفى المجيدية) ؛ ثم تطورت الى مدينة الطب. ونجد في نهاية (العيواضية) ايضا (مقبرة الشهداء) وبناية (السجن المركزي). كما نلاحظ في ساحة ( باب المعظم ) حدائق قاعة (الملك فيصل الثاني) التي تتصل ببناية وزارة الدفاع القديمة. لقد عاش في (مدينة ألأعظمية) أناس من شتى الطوائف والمذاهب والفئات الإجتماعية المختلفة. وكانت تسود بينهم روح المودة والجيرة الحسنة والمصاهرة المباركة. فتجد المسلم الى جانب المسيحي والى جانبهما الصابئي.

 كما تجد الوزير الى جوار الموظف البسيط ؛ والتاجر الكبير الى جانب الأجير. ان مدينتي الحبيبة؛ مدينة الأعظمية العريقة التي يعود تأريخها الى عدة قرون ؛ كانت وبحق بمثابة منزل ألأسرة الكبيرالذي يحتضن كافة افراد العائلة الواحدة ؛ حيث تسود بين أبنائها روح المحبة والتعاون والتسامح؛ وسوف تظل كذلك بالنظر لعمق جذورها الثقافية وصدق تأريخها وأصالة أبنائها الكرماء الطيبين.

تأليف : عبدالامير القزاز/ استاذ في الفيزياء/ عضو مؤسس جماعة الانطباعين العراقيين.

جمع واعداد: خالد عوسي.

ليست هناك تعليقات:

أحدث مقال

[بعد ثلاثة عقود على وفاته] ماذا عن عوسي الضاحك أبدا ؟

  [بعد ثلاثة عقود على وفاته] ماذا عن عوسي الضاحك أبدا ؟ الصورة : عوسي الأعظمي على إحدى الصحف الإنگليزية ، منتصف الأربعينات . المقال : جاسم م...