بغداد الأم الحنون - أيام لها إيقاع / صورة ساحة التحرير في بغداد بداية الستينات .
عيون المها بين الرصافة والجسر/ جلبن الهوى من حيث أدرى ولا أدرى (علي بن الجهم)
لقد شاء الله أن أحظى خلال خمس سنوات ونصف في سبعينيات القرن الماضي بالسكنى فى تلك "الرَصَّافة" وبالتحديد فى حى "العِواضِّية" جوار بيت صادق رافع الزهاوى الأديب المشهور والجسر علي نهر الدجلة. تكثر في بغداد الأحياء السكنية الراقية مثل حي الضباط وحي الأطباء والكاظنية والأعظمية .... إلخ. أما حى العواضية المعني فيحد شمالاً بمبانى كلية طب جامعة بغداد العريقة التى سعدت بالدراسة فيه وكذلك وزارة الدفاع. أيضاً يحد من ناحية الشمال الغربى بباب المعظم وباب المعظم والباب الشرقى كانتا من ضمن عدة أباب لبغداد وقد كان لبغداد آنذاك سور عظيم يحميها من العداء أيام الخليفة جعفر المنصور. الصيف فى العراق شديد اللهيب. للعراقين مثل يردد مع قدوم الصيف الحار، يقولون: "شهر تموز يغلى المى فى الكوز!!" تنضج فيه ثمار النخيل ويلين من حره أسفلت الشوارع. لكن برغم ذلك فلليالى صيفك يا بغداد طعم خاص ونكهة أشورية بابلية. إننى لا أنسى بهجة تلك الليالى المقمرة أو تلك التي تنيرها الثريات اللألاءة على ضفتى نهر دجلة العظيم الذى دوماً يحكى للعالم أجمع ذكرياته القديمة والجديدة حلوة كانت أم مرة!. أيام خلت قضيناها و نحن طلاب علم و معرفة شغوفين فى كنفك الرحيم وكرمك الفياض. كانت ملؤها الأمل المصحوب بالجد والصبر والكفاح فى ظروف جداً صعبة من دراسة طب مضنية بل تحمل كل مسؤليات الحياة فى أيام نحس فيها لأول مرة مرارة الغربة والبعد عن الوطن بل الأهل والأحبة و نحن لا نزال صغار السن بل صغارالتجربة. لكن وبرغمها فقد كانت ولاتزال لتلك الأيام إيقاعات وذكريات جميلة خالدة تجيش فينا أشجاناً توقظ المشاعر من نومها "فياضةًً" تغلب صبرنا وتقربنا منها رغم البعد. كيف لا ولبلد الرشيد نكهة خاصة و طابع مميز حيث لا تشابهها أى مدينة أخرى فى العالم العربى قاطبة. لبغداد جمال أخَّاذ يمتلك عقل الزائر لأول وهلة. مثلاً إذا تأملت فى معمارها وأسواقها القديمة ذات الأزقة الطويلة المتعرجة فإنك لتجد فيها ذلك الأثر و ذاك العطر الشرقي الضواخ حتى لكأنك تعيش تلك العصور ذات الرخاء الوفير العميم و ثروة فى المال و الأدب والفن والجمال وعلوم الطب والرياضيات والفلك. أعود إليك شوقاً يا ليالى بغداد حيث كنا ننعم فيك بؤنس أوإسترخاء ساعة صفاء فى إحدى مقاهيك الكثيرة أو كازينوهات شارع أبى نواس البهيجة. هناك يجد المرء الحالم اليقظ متعة الراحة والتأمل كأنه مليك ألف ليلة وليلة!. حتى الفلوكات ومن عليها تضفى زيادة على جمال تلك الليالى زينة رائعة الشكل واللون فتحيلها لوحة تشكيلية جميلة تشد إنتباه الناظرين إليها تعجباً فإنها بحق رائعة تثرى الخيال. كنت أغلق الكتاب عندما يضيق صبرى من جراء عناء مذاكرة دروسى. كنت أنطلق راجلاً ماراً بساحة الميدان التى لا تبعد من باب المعظم سوى نصف الكيلومتر والتى تؤدى بدورها إلى آثار مدرسة المستنصرية العريقة ومن ثم بدايات سوق الكتب وشارع الرشيد الذى يتميز بشكل معماره الفريد ذى الطراز القديم. أما سوق الكتب يؤدي عند نهايته إلي سوق النساء وكلاهما عبارة عن أسواق عامرة بالكتب والقرطاسية وكل لوازم النساء من ملابس وأحذية أو حلى ذهبية كانت أم فضية وأشتهر بالأخيرة من الصاغة أصحاب الأقليات الإثنية خاصة من الأرمن والآثوريين. هذا الشارع الرائع يحاذى نهر دجلة ويوازى شارع الرشيد من الناحية الأخرى فكلاهما ينتهيان عند الباب الشرقى الذى يؤدى بدوره إلى شارع عبدالمنعم السعدون أكبر شارع تجارى حديث المعمار فى مدينة بغداد. كنت أجد متعة عظيمة في ذلك التجوال راجلاً متأملاً فى تاريخ كل تلك الحضارات العظيمة وحكايات ألف ليلة و ليلة التى يحلو للمرء تردادها وشعر رصين وأدب عربي تألق في زمانه. كان ينتهى بى السير عند شارع أبى نواس السياحى المشهور بروعة مقاهيه و كازينوهاته التى تجد فيها النفس راحة البدن والبال. وكانت تروق إلى نفسى أكلة الدجاج المشوى على الفرن أو "اللحمة بالعجين" وهى تقدم عادة ساخنة من على الفرن البلدى مصحوبة بمشروب "الروب" البارد (المثلَّج) وكمية كبيرة من سلطة الخضار. تلك لمحة صغيرة من أيامك الحلوة التي أسعدتنى بها يا بغداد!. كانت حافلة بكل جميل وجمعتنى بزملاء وأصدقاء أعزاء من العراق نفسها ومن الذين قدموا من بلاد الله الواسعة ينشدون العلم والمعرفة. فاجتمع عندك أبناء السودان مع أبناء كل من بلادالخليج واليمن والشام ومصر والمغرب العربى والصومال وإريتريا فكونوا كياناً هو الصورة الحقيقية لجامعة الدول العربية والأفريقية !. كانت تجمعنا الإحتفالات الطلابية فى حى الوزيرية البهيج حيث الفلل الراقية التى تفوح من حدائقها الغنّاء نفحات عبير وردها من فل وياسمين وروز . أما إسم الوزيرية فيعود إلى ذلك العهد القديم حيث كان يسكن فيها كبار القوم وذو الشأن خاصة الوزراء وغيرهم إنه بحق حيٌ جميلٌ أبداً لاينسى جمال قاطنيه. أيضاً من الأحياء السياحية الهامة جداً حى "الأعظمية" حيث مرقد الإمام الأعظم أبوحنيفة وحى الكاظمية الذى فيه مرقد الإمام الأعظم "موسى الكاظم" حفيد سيدنا على بن أبى طالب كرم الله وجهه. أما إذا كنت من الذين يحبون أهل المتصوفة فحدث ولا حرج! فبغداد معروفة بمرقد شيخ الصوفية المشهور "الشيخ الجنيد"، و أيضاً مرقد العلامة الشيخ عبد القادرالجيلانى والكثير من العلماء الأجلاء. كنا نحرص علي أداء صلاة الجمعة مرة في جامع أبو حنيفة ونتغذي بعد الصلاة بطبيخ الملوخية المجففة في مطعم فلسطيني أما الجمعة الأخري فكنا نقضيها في جامع الشيخ عبدالقادر الجيلاني عليهما رضوان الله. وفي الكوفة والنجف الأشرف حظينا بزيارة مراقد سيدنا علي وأبنائه رضي الله عنهم. أترحم علي روح السودانيين الذين كانوا يمثلون ويرأس ومن منظمة الزارعة والغذاء العالمية ( ألفاو) علي رأسهم الدكتور الزراعي صلاح نوح والسيد عمر عديل ممثل اليونيسكو عليهما رحمة الله والتحية للسيد البروفيسور البيطري الدسوقي الذي أتي وأسس كلية البيطرة في حي أبي غريب وأخرين لم تسعفني الذاكرة بذكرهم مثل محمد داؤد الخليفة.....إلخ . والحديث ذو شجون إنني اليوم أذرف دموع الحسرة عليك يا بغداد. يا مدينة سمحة مريحة رحيبة حباك الله بجمال الطبيعة وجمال خلق الله فى خلقهم وأخلاقهم. فوالله أشهد أن فيك أهلاً لهم سماحة نادرة وصدق و شهامة وكرم حاتمى لا يبارى!. إننى اليوم أذرف عليك الدمع السخين والعالم كله يتفرج وهو مكتوف الأيدى على مآسيك وجراح أهلك الطيبين. تلك الجراح المتجددة فى كل يوم جديد!. إننى لا أملك شيئاً سوى الدعاء لك سائلاً المولى "جل شأنه" أن يقيك من كل الشرور وشر كل فتاك ظالم من شياطين الإنس وأن يجمع شمل أبنائك علي المحبة والسلام والتحية لكل الذين قد تخرجوا في جامعتك العالمية الفتية .
بقلم د. عبدالمنعم عبدالمحمود العربيي/لندن
جمع واعداد: خالد عوسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق