الأحد، 15 ديسمبر 2013

حديث السِدارة والعمامة


صورة للملك فيصل الأول بالسدارة الفيصلية وهو يغادر فندق في لندن عام ١٩٢٩م .

لغطاء الرأس مفاهيم ورمزيات تعتز بها جميع الشعوب شرقا وغربا، بالرغم من تحولهم في هذه الأيام الى اعتياد السفور في الغرب، ولكن كانت للعراقيين تقاليدهم الرصينة في هذا الموضوع. مما اتذكره من والدي رحمه الله، انه كان يطلب منا عندما نذهب لمعايدة او زيارة اعمامنا ان لا ننسى لبس السدارة. فقد كان غطاء الرأس من اصول الادب والتقوى، على عكس الاوربيين الذين كانوا ينزعون قبعاتهم عندما يدخلون الكنيسة او عندما تمر امامهم جنازة.. وهم يفعلون ذلك عندما يحيون امرأة ايضا. فخلع القبعة عندهم نوع من التحية والاحترام. وليس الأمر كذلك في ديار الاسلام. وهي ايضا رمز للبلوغ. فمثلما يتعين على البنت ان تتحجب وتلبس "عباية" عندما تبلغ سن الرشد، او فالأقل تدخل مرحلة المراهقة، فكذلك يتعين على الصبي عندما يبلغ ذلك السن ان يعتمر بـ"عرقچين" او "چرّاوية" او "عمامة" او "كوفية وعقال" ونحو ذلك. وكان من نتائج ذلك ان تعددت اغطية الرأس، الى الحد الذي جعل المنلوجست عزيز علي يسخر من الوضع بمنلوجه الشهير؛ "شعار الناس اصبح يا ناس اشكال اجناس". وضمن مساعيه لتوحيد الشعب العراقي، حاول الملك فيصل رحمه الله ان يحقق ذلك بتوحيد غطاء الرأس فوجد ان السدارة خير اداة لتغطية الرأس لجميع العراقيين. غير انه ولسوء الحظ اساء الآختيار. فهي لا تقي الانسان من الشمس و لا من المطر، و لا هي بشيء جميل او انيق، او لها رصيد في تراثنا العربي. فلم يتحمس الناس لها، وعانى مشقة كبيرة في حمل الناس على لبسها، شق عليه بصورة خاصة ان يرى استاذ الرياضيات علي مظلوم يرفض لبسها. وكان الملك يتوقع منه أن يفعل ذلك، وهو الاستاذ الكبير ان يصبح قدوة لكل المثقفين العراقيين فيحتذون به. لكنه لم يفعل. ذهب الملك يوما لزيارته، فانبهر الاستاذ مظلوم بهذه الزيارة المفاجئة، رحب بالملك وامر بإحضار الشاي والكعك على عادة العراقيين، ثم سأل جلالته، "سيدنا كرمتنا بهذه الزيارة.. أي خدمة تريد مني؟"، اجابه الملك "نعم. أن تقبل مني هذه الهدية البسيطة"، وناوله علبة مقوى صغيرة، فتحها فاذا بها تحتوي على سدارة. قال له الملك "استاذ علي، اريد منك ان تلبسها" . اصبح الاستاذ امام الأمر الواقع. أنها بمثابة ارادة ملكية. فلبسها ووعد جلالته ان يستمر بلبسها. وهو ما فعله عمي الشاعر ناجي القشطيني ابو سعدون، عندما ترك العمامة ولبس السدارة. نصح والدي بعمل مثل ذلك ، قال له ان عهد العمائم انتهى. الآن عندنا حكومة عصرية. اذا كنت تريد ان تتجاوب مع الوضع الجديد وتتقدم في الحياة فمن الأفضل لك ان تنسجم معه. بيد ان والدي لم يقتنع. قال له انه لن يتخلى عن زي اهله واجداده من اجل الوظيفة. فقضى عمره مجرد معلم مدرسة ولكن بالجبة والعمامة. في حين ارتقى عمي ناجي بالسترة والبنطلون الى اعلى المناصب. الحقيقة ان كل افراد اسرتنا القشطينية كانوا يلبسون العمامة كسائر الناس المتعلمين. فالعمامة لم تكن لها اي منزلة دينية خاصة، وانما كانت في العهد العثماني زي الرجل المتعلم. وهذا ما حصل لإمرأة أمية وصلتها رسالة من ابنها الجندي. فأخذت الرسالة ليقرأها لها أحد يجيد القراءة والكتابة. فصادفت رجلا معمما فأعطتها له ليقرأها لها. و كانت الرسالة مكتوبة بشكل "خرابيط" فلم يتسطع الرجل ان يقرأها فأعتذر لها. "متأسف يا حرمة ما اقدر أقرأ هالمكتوب". فنظرت في وجهه وقالت: "ما تقدر تقراها؟ على ايش لعد لابس العمامة بهالكبر وما تقدر تقرا سطرين مكتوب!"، فما كان منه الا ان نزع العمامة من رأسه ووضعها على رأسها ثم اعطاها الرسالة وقال: "هه! يا الله شَوفينا شلون تقريها هسة". الحقيقة ان عدم شيوع لبس السدارة في العراق خلق للعراقيين مشكلة اخرى تضاف الى مشاكلهم العديدة. اتصل بي ذات يوم احد المسؤولين فسألني عن رأيي في الموضوع. قال اننا الآن شعب بدون غطاء رأس يعتمرون به بعد رفضهم للسدارة. العمائم اصبحت محصورة برجال الدين ولا يستسيغ لبسها اي رجل متطور. واليشماغ والعقال اصبح زي الفلاحين والبدو، والكورد لهم عمامتهم الخاصة. كيف يتحد العراق اذا كنا لم نتحد حتى في لبس غطاء الرأس؟ قلت له يا سيدي الفاضل، "انت تريد توحد العراق بـ(الشَفْقة)؟ خلينا ندبر مشاكلنا الاخرى بالأول" . 

تأليف: خالد القشطيني.
جمع واعداد : خالد عوسي.

ليست هناك تعليقات:

أحدث مقال

جسر ونهر الخر (الشْطَيِطْ)

  جسر ونهر الخر (الشْطَيِطْ) . الصورة : ملتقطة من جهة ساحة النسور ، وعلى اليسار (قصر الرحاب) وعلى اليمين (قصر الزهور) الذي لم يظهر . شيد الع...