الأربعاء، 5 مارس 2014

الجمّالي و الشيخ جياد [ و حكومة من البغال ]



الصورة / رئيس الوزراء محمد فاضل الجمالي في السجن ، بعد إنهيار الحكم الملكي و إصدار محكمة المهداوي حكمها عليه بالإعدام .

درس الدكتور محمد فاضل الجمالي في الولايات المتحدة حيث نال شهادة الدكتوراه في التربية. و عندما أُسندت اليه رآسة الحكومة العراقية في الخمسينات اصبح اول سياسي عراقي ، و ربما اول سياسي عربي ايضا يحمل شهادة الدكتوراه و يتولى رآسة الحكومة في بلده. و من هنا، حرص الدكتور الجمالي طوال حكمه على تقديم المثقفين و الجامعيين و اسناد المناصب الرفيعة لهم. و لكن ذلك طبعا ، و كما نتوقع جعله يتباين تباينا تاما مع الكثيرين من الموظفين المخضرمين الذين تولوا تعليمهم في العهد العثماني ، و في كثير من الاحوال لم يتجاوز تعليمهم ما تلقوه في الملا. ازداد هذا التباين وضوحا بالنسبة لكثير من اعضاء مجلس النواب المُدَشدَشين من الذين كانوا يمثلون عشائرهم و مناطقهم البدوية و الريفية في المجلس. لم تزد ثقافتهم في اكثر الأحيان على ما تعلموه في الملا، بالاضافة طبعا الى التراث الفولكلوري الذي نشأوا عليه. كان من هؤلاء الشيخ جياد الشعلان، النائب من مدينة السماوة. وهو ابن الشيخ شعلان ابو الجون ، شيخ عشيرة الظوالم و احد قادة ثورة العشرين. كانت للشيخ جياد علاقة مناوشات اخوانية مستمرة مع رئيس الوزراء ، الدكتور الجمالي. كان هذا يكايد و يتحرش بالشيخ ساخرا و مداعبا في كل مناسبة. و كان الشيخ بدوره يرد على المثل بالمثل. كانت ايام خير ، و أَلسن الناس حرة و طويلة، و خاصة لسان الشيخ جياد الشعلان ، الذي امتاز بسرعة البديهة و لباقة الكلام و التعليق اللاذع الساخر. دعي الشيخ مع عدد آخر من نواب المجلس و رجالات الدولة و اعضاء السلك الدبلوماسي لمشاهدة احدى فرضيات الجيش العراقي ، او ما يعرف بالمناورات. و اختيرت لها منطقة جبلية في كردستان بمناسبة يوم الجيش في 6 كانون الثاني. بدأ الدكتور محمد فاضل الجمالي حياته المهنية بعد عودته من الولايات المتحدة بالتدريس. و مهنة التعليم من المهن التي تلتصق بصاحبها. و الظاهر ان ذلك ما حصل للجمالي، فقد ظل مولعا بالوعظ و التعلم حتى في حياته السياسية. و انهى حياته في الواقع يدرس في الجامعة التونسية. البغال من الحيوانات الغريبة التي وردت شأنها شتى الحكايات و الاساطير و الامثال الشعبية . يقولون البغل بين الحمير حصان . و يصفون الرجل الصبور الذي يتحمل الشدائد بالبغل. وقد اعتمد الجيش العراقي على البغال كثيرا في كردستان و كان له دوره في هذه الفرضية، هذه المناورات . ما ان شاهد الجمالي صفوف البغال امامهم في الساحة حتى انطلق بموهبته التعليمية في الكلام عن البغال . لم يترك الموضوع للضابط المسؤول عنها و الأعرف بشؤونها ، بل انطلق وهو رئيس الوزراء يحاضر عن فضل البغال و كيف تتسلق الجبال و تحمل الحمولات و تمر عبر اخطر الممرات و تعرف طريقها و تفهم واجباتها. لم يكد الشيخ جياد الشعلان يسمع كل ذلك حتى نفذ صبره فالتفت الى رئيس الوزراء فقاطعه و قال: " اذا هيچي البغال اذكياء و يشتغلون زين، ليش اذن يا صاحب الفخامة ما تضم اثنين ثلاثة منهم لحكومتك؟" فضج الحاضرون بالضحك. كانت مداعبة من الشيخ، و لكن خلفه في الحكم مَن طبق بالضبط نصيحة الشيخ جياد فضم لحكومته شلة كاملة من البغال. و لكن بغال الجمالي كانت تفهم و بغال مَن جاء بعده لا تفهم و لا تعلم. يجهل الكثيرون ان الدكتور فاضل الجمالي كان من اشد المتحمسين للقومية العربية و تحرر البلدان العربية و نيلها استقلالها. و قد تكلم مرارا في الامم المتحدة في هذا الخصوص ببلاغة نادرة حتى اعترفوا بموهبته الخطابية و استخدامه اسلوب السخرية في النيل من الدول الاستعمارية. تجلى ذلك بصورة خاصة في دفاعه عن حق الجمهورية التونسية في نيل استقلالها و جلاء القوات الفرنسية عنها. و يظهر ان الرئيس حبيب بورقيبة لم ينس ذلك الدور له . فعندما اعتقلت حكومة عبد الكريم قاسم محمد فاضل الجمالي و احالته لمحكمة فاضل المهداوي، محكمة الشعب، بذلت الحكومة التونسية جهودا كبيرة و توسطت لدى عبد الكريم قاسم لأطلاق سراحه ، ثم استضافته لاجئا فيها و استاذا في جامعاتها. و كان فعلها فعل من آمن برد الاحسان بالأحسان.


جمع واعداد: خالد عوسي

ليست هناك تعليقات:

أحدث مقال

[بعد ثلاثة عقود على وفاته] ماذا عن عوسي الضاحك أبدا ؟

  [بعد ثلاثة عقود على وفاته] ماذا عن عوسي الضاحك أبدا ؟ الصورة : عوسي الأعظمي على إحدى الصحف الإنگليزية ، منتصف الأربعينات . المقال : جاسم م...