الصورة/الحوت الذي دخل الى مياه أم قصر في أوائل شهر شباط عام ( 1967 م ) و كان ميتا وطافيا على المياه فسحبته باخرة الموانئ آنذاك ، الى رصيف ميناء أم قصر ولم يتمكنوا من اخراجه إلا بواسطة الرافعة فبقي على الرصيف عدة أيام ثم دفن بأمر لجنة فنية من قبل مديرية الآثار وبعد تفسخه اخذ هيكله العظمي ووضع في المتحف الطبيعي في البصرة .
في صباح الثالث والعشرين من أغسطس سنة 1938 فوجئ البغداديون بخبر نشرته جريدة العراق البغدادية بشكل اعلان يقول ان القمر سيخسف فوق بغداد كليا، بتمام القرص، ليلة الثلاثاء 8 تشرين الثاني سنة 1938 وسيكون الخسوف ببرج الثور، بمنزلة الدبران، والطالع درجة 15 من برج السنبلة ‘التوقيع ملا جاسم بن محمد . وهذا الشخص الذي اقام بغداد ولم يقعدها طوال اسابيع هو (بغدادي) من المثقفين المتنورين انذاك. لكن عامة العراقيين تشك دائما في اقوال هؤلاء وفلسفتهم، خصوصا اذا استخدموا العلوم في تبيان الحقائق وتفسير الظواهر الطبيعية، فهم ـ حسب راي الملا صقر ـ عبارة عن افندية يتحرشون بمعتقدات الناس ويجب ابعادهم عن بغداد
البحث عن ملا جاسم :- بات البغداديون خائفين من كارثة ستقع بعد شهرين وخمسة عشر يوما من تأريخ نشر هذا الاعلان من شخص لايعرفه الكثيرون، وقد يكون شخصا مشاغبا مثيرا للفتنة. واذا صح الخسوف فهذا يعني أن ‘الحوتة المنحوتة المنحوسة’ موجودة في بغداد وفي سماء بغداد وأنها تتربص بقمر بغداد لكي تبتلعه فيحل الظلام في سماء العالمين! قام شقاوات محلات قنبر علي والمهدية والفضل والدهانة وخان الآل بتشكيل فرق بحث عن هذا المثقف المدعو ‘ملا جاسم بن محمد’ الذي جاء بخبر خسوف الشمس وكيف ياترى علم قبل وقوع الخسوف بشهرين ونصف الشهر؟! رغم أن العلم عند الله؟ في الساعة الثامنة والدقيقة الثالثة من ليلة الثامن من تشرين الثاني عام 1938 أنخسف القمر وراحت ‘الحوتة’ – كما يعتقد البغداديون – تبتلعه في بطنها تدريجيا امام انظار الناس كما توقع الملا جاسم . وسخطت بغداد تلك الليلة، وضجت محلاتها وسطوح دورها بمعزوفة موسيقية متضاربة يسمع صداها القادمون على بعد عشرة اميال، أما الألآت العازفة فهي عبارة عن (التنكات والچفاچير والمغارف والقدور النحاسية والصواني والقروانات والطبول)! والكل يعزف من فوق سطوح المنازل وهم يراقبون القمر المسكين يختفي تدريجيا في بطن الحوتة، وعيونهم شاخصة اليه وهم يرددون اغنيتهم الشعبية التي يهددون بها هذه الحوتة المنحوسة بالويل والثبور .
ياحوته يامنحوتة
هدي قمرنا العالي
هذا قمرنا انريده
هو علينا غالي
وأن كان متهدينه
أندق لج بصينية
طاق طيق، طاق طيق طاق طيق
وتهدر اصوات الچفاچير والمغارف والملاعق والقروانات والصحون، لعل الحوتة تخاف من هذه السيمفونية البغدادية فتترك القمر وتهرب.
ياقريب الفرج :- وفي كل دربونة أو رأس عقد (زقاق) وقف ابو طبل يضرب بطبله. ووراءه وحوله جوقة من الصبيان وبأيدي بعضهم الفوانيس ، يتصايحون و’الحوتة’ لاتسمعهم ولاتأبه لصياحهم، أما العجائز في تلك الليلة المشؤومة التي ابتلعت فيها الحوتة قمر بغداد, فقد اجتمعن فوق السطوح رافعات الأيدي بالدعاء وبصوت واحد
ياقريب الفرج!!
ياعالي بلا درج!!
قمرنا طايح أبشدة
نطلب منك الفرج!
وعلى ضفاف دجلة (من أمسناية باب المعظم الى أمسناية سبع ابكار بهذا الصوب) و(من أمسناية الجعيفر الى أمسناية الكرادة بذاك الصوب) وقفت النسوة المرضعات والزوجات الحبالى والزوجات (المچبوسات، اللي مايحبلن ويجيبن) والخائفات من أن يتزوج عليهن أزواجهن . وبالطبع لم يكن في بغداد أنذاك غير جسرين وعدة ‘جسارات’، والناس ضائعون في الخرافات، ولهذا (بلعت الحوتة القمر)! وأبتلعت معه (ملا جاسم بن محمد) وبقي الناس في تلك الليلة المشؤومة يعزفون بالقدور والصواني والچفاچير والقروانات لعل الحوتة ‘تهد’ القمر وتهرب منهم, واشتد صياحهم وعلت اصوات موسيقى القدور والصواني اكثر فأكثر .
الحوتة بلعت القمر :- وبعد ثلاث ساعات ونصف الساعة، وحوالي الساعة الحادية عشرة وعشرين دقيقة في تلك الليلة ، طلع القمر من جديد، فتصايح البغداديون من فوق السطوح وأعالي المنائر والفوانيس واللمبات والشموع بايديهم . زاعته الحوتة!!.. الحوتة زاعت القمر!! خافت وزاعته . وعلت الهلاهل. وتبادل البعض التهاني من فوق السطوح، لأن الحوتة داخت و’انسطرت’ من شدة أصوات القدور والچفاچير والصواني، فزاعت أي (تقيأت) القمر وهربت خائفة من فزعة البغداديين.
وتنفست بغداد الصعداء :- وتداعى الشعراء في المقاهي ينشدون مايمكن انشاده في ذم الحوتة و’اللي جاب الحوتة’. وفي صباح يوم الثلاثاء صدرت احدى الصحف وفي صفحتها الأولى قصيدة لشاعر العراق الشعبي ملا عبود الكرخي ينوه فيها بما فعلته ‘الحوتة المنحوتة’ ويغمز فيها الى ‘الحوتة البريطانية’ التي ابتلعت العراق آنذاك عام 1916م . وفي مقهى (إبراهيم عرب) في الأعظمية تحدث عرب (وهو صاحب المقهى وشخصية بغدادية شهيرة بادعاء البطولات التي تضفي على شخصيته المهابة وهي عبارة عن قصص مختلقة من صنع خياله قال للجالسين متباهيا:- بأنه لولا هو ولولا خوف الحوتة منه لما ‘زاعت’ القمر وهربت، فلقد صعد إليها في ليلة البارحة بعد ان تمكن من صعود منارة جامع الامام الأعظم وقفز نحوها، وحالما رأته زاعت القمر وهربت’ ، أما كيف وقع القمر في ‘حلق الحوتة’ فقد شاعت انذاك نظريتان :-
الأولى: روج لها أهالي محلة (قنبر علي) فقالوا: ‘ان القمر كان جاي لمحبوبته يريد يلتقي وياها، لكنه خطية تاه وظل طريقه في الجول والصحراء وبين الجبال، وكانت الملعونة الحوتة خاتلتله أهناك فكمشته وبلعته’.
الثانية: فقد تحدث بها في بادئ الأمر أهل محلة الفضل فقالوا:’إن الحاجة عمشة أم ستوري شاهدت القمر في تلك الليلة جاي يشرب ماي من الشط، خطية عطشان، واول ما دنج على الشط حتى ياخذله قمع ماي شافته الحوتة وجرته لها وبلعته، وقامت الحاجة عمشة أتصيح لكن محد سمعها لأن بذيج الليلة نص بغداد سكارى شاربين عرق هبهب’ وبعشيقة . أما أهل محلة ‘باب الأغا’ فهم على خلاف مذهبي مع المحلات المجاورة. لهذا فسروا الأسباب برواية أخرى تقول: ‘إن القمر كان بالأساس في تلك الليلة ‘اعور’ وأنه في تلك الليلة أيضا لم يكن حاملا ‘عظم الهدهد’ لكي يحميه كعادته من الشر، لهذا حينما خرج للطريق لم ير ‘الحوتة’ التي كانت تتربص به من جهة عينه ‘العورة’ فمسكته وابتلعته’ . ومرت تلك الليلة بسلام، وبأقاويل وحكايات كثيرة استمرت ثلاثة اشهر. ولكن ظل البغداديون كما كانوا دائما على أهبة الاستعداد بقدورهم وچفاچيرهم وصحونهم وصوانيهم وقنادرهم ومكاويرهم للطرق عليها من فوق السطوح ليخيفوا الحوتة التي تبتلع القمر بين حين وآخر. وهم يرددون (ياحوتة يامنحوتة.. هد قمرنا العالي.. وأن كان متهدينة.. أندق لچ ابصينية.. طاق طيق طاق طيق, طيق طاق).
جمع واعداد : خالد عوسي.
- عوسي الأعظمي حوت أم قصر :- لقد سبق وان دخل الى ميناء الفاو في عام ( 1880 ) حوت كبير الى مياه شط العرب في زمن الدولة العثمانية حتى وصل نهر دجلة . ولكن الماء لم يحمله فأرسلت الحكومة العثمانية باخرة وعليها مدفع فأطلقت عليه عدة أطلاقات حتى مات وجاءت به الى البصرة / في قرية التنومة فبقي عدة أيام حتى تفسخ لحمه ؛ فأُرسل هيكله العظمي الى الهند / متحف بومبي الطبيعي سنة 1297 هـ /1916 م على أيام والي البصرة مظهر باشا . وأما الحوت الثاني فقد دخل الى مياه أم قصر في أوائل شهر شباط عام ( 1967 م ) ولكنه كان ميتا وطافيا على المياه فسحبته باخرة الموانئ آنذاك ، الى رصيف ميناء أم قصر ولم يتمكنوا من اخراجه إلا بواسطة الرافعة فبقي على الرصيف عدة أيام ثم دفن بأمر لجنة فنية من قبل مديرية الآثار وبعد تفسخه اخذ هيكله العظمي ووضع في المتحف الطبيعي في البصرة . وهذا الحوت الثاني الذي يدخل مياه البصرة كما أسلفنا على أيام متصرف البصرة علي نهاد مصطفى هذا حسب ما ذكره الشيخ عبد القادر باش عيان في كتابه مخطوطة تاريخ البصرة في الصفحات ( 166 و 170 ). الصورة - الحوت الثاني الذي دخل أم قصر .
- Belqees Abdalhady لم اكن اعلم ان البغداديين كانوا بهذا الجهل والتخريف لان بغداد كما نعرف كانت دائما منار العلماء والمثقفين ولكن ربما لكل زمان ظروفه واحواله
- ستار الاعظمي والله يا ابو سليمان عندك كل سالفه ها جابه على بالك هيه حقيقه بس بيهه نوع من الخرافات الحقيقيه الآن الناس كانت بسيطه وعلى نيته شكراً أخ خالد على هذا المجهود الرائع لنقل الموروث البغدادي الخيالي لان اغلب هذا الجيل يجهل الموروث البغدادي الآن انا بعتقادي ان هذا موروث توارثنا من آباؤنا وأجدادنا .. روعا وشكراً
- Aieyad Qaisi روووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووعه انت دائما تفاجئنا بــأبداعاتك فعلا امتعتنا
- ستار الاعظمي كل الحب والتقدير لصاحب التعليق بلقيس نعم بغداد كانت مدينه العلم والثقافة وبنفس الوقت صاحبه الروايه والقصص الخياليه لناس طيبين على نياتهم شعبين هم آباؤنا وأجدادنا ليسوا جهله مع التقدير
- Ali Hady الاخ خالد ... لااعرف كم هي سعادتي بمواضيعك التي فعلا تشبه الفسحة الجميلة بين الكم الهائل من منغصات المواضيع في الفيس بوك ... شكرا لك واسمحلي ان الطش الموضوع ليتسنى للجميع قرائته .. تحية طيبة
- Thamer Al-Samarraie عاشت أيدك اخ خالد رجعتني سنين طويله الى الوراء عندما كنا صغار كنا نسمع هذه القصص وكنا نسمع عن الطنطل وعن البيوت المسكونة وكنا نخاف وأحيانا نحلم بهذه القصص اما قصة الحوته وابتلاعها للقمر والاغنيه المشهورة التي سمعناها آنذاك هي ( يا حوته يا منحوته هدي كمرنه العالي وان جان مت هدينه نضربج بسجينه ) طبعا هذه كلها خرافات . والشئ الغريب ان بغداد في زمن هارون الرشيد كانت قمه بالعلم والمعرفة ونحن العرب اصحاب الفضل حيث العرب هم الأولين بعلم الفلك والجبر والطب فكيف اصبح الناس بهذه السذاجة ان الحوت يبلع القمر وهل هذه السذاجة من مخلفات الاستعمار العثماني الذي ابتلينا به والسلام
- Tuqa Aladhami المقال حلو وهذا مايعبر عن تخلف لكن الناس كانت تعيش عالفطرة وكانوا بسطاء بتفكيرهم وهو ماقال هذا الحدث صار. بالعصر الأموي أو العباسي وقت الدوله الإسلامية ولكن وقت الاحتلال والناس ماكانت بهذي الفتره تهتم بالثقافة والتعليم
- Mazin Al Jareh يابه صارت مزايده عشر اطنان اعجاب استاذ خالد دائما تتحفنا بالجديد والجميل من الماضي فبارك الله بك ولك مني جزيل الشكر والاحترام
- خالد عوسي الأعظمي أختي العزيزة ( Belqees Abdalhady ) تشرفت بعطر مرورك الكريم ، أما بخصوص تعليقك الأول . فعلى الرغم من وصفك البغداديين بالجهل و التخريف إلا أنهم كانوا على قلب رجل واحد ، إذ خرجوا عن بكرة أبيهم لإخراج القمر من بطن الحوت كما كانوا يعتقدون . فهم على بساطة تفكيرهم فهم لم و لن يسمحوا لأي حوت أن يبتلع شيئاً من سماء العراق أو أرضه فتسلحوا بما يمتلكون (التنكات والچفاچير والمغارف والقدور النحاسية والصواني والقروانات والطبول) حتى تم لهم النصر كما يتصورون . و أحييك على تعليقك الثاني الذي أعقب عليه بالقول ( إن العراق يعوم على أكبر بحر من النفط في العالم فبذلك أبتلينا بمجيء هذه الحيتان المسعورة ) مع خالص إحترامي و تقديري .
- Mohammad Riyad Alobaidy شكرا للآخ أبو سليمان الورد على هذه المواضيع الجميلة و المتنوعة التي تخص تأريخ بلدنا العراق و التي تسعدنا و تزيدنا معرفة . و تحياتي و أشواقي لك يا أخي أبو سليمان الورد .
- Belqees Abdalhady الاخ العزيز خالد عوسي الاعظمي انا بنت بغداد الاصليه وعشقي بلغداد واهلها لا يوصف ثم ان بالاخص من الاعظميه الغاليه لم اقصد الانتقاص من اهل بغداد بالطبع ولكن القصد بساطة تفكيرهم في تلك المرحله ثم انك كتبت عن المناطق الشعبيه بالتحديد وانا متاكده ان بغداد لا تخلوا من المفكرين والعلماء والرجال العظماء في كل وقت وحين ومع ذلك اقدم اعتذاري عن خطا غير مقصود
- Banan Alaadamy ههههه قصة جدا حلوة وياريتنا باقين على بساطة عقل اهلنه ولا جتنه التكنلوجيا وسوت بينا اللي صار
- خالد عوسي الأعظمي أخي العزيز ( أسامة سعد آل شاكر ) أشكر على مرورك الكريم و على إطرائك الرائع ، تحياتي .
- خالد عوسي الأعظمي ما أروعك ، أخي العزيز ( ستار الاعظمي ) يا أجمل نديم ، فأنت في مرورك كريم و في حضورك نسيم ، شاكراً كلامك السليم . مع وافر الإحترام و التقييم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق