خذوا الحكمة من " الرجعيين " !! مـع نــــوري باشــــا الســـعيد . المشهد . في كلية ضباط الإحتياط في معسكر الرشيد سنة 1957 ونحن في المطعم و على مائدة الغداء دخل علينا أحد الضباط من معلمي الكلية وقال :-" يا أخوان راح يزورنا الباشا اليوم رجاءا على كيفكم وياه " وأعتقد كان يقصد ألا نشكيهم عند الباشا !! كنت أنا جالسا من جهة الممشى ، المائدة قبل الأخيرة والى جانبي في الوسط طالب إسمه أحمد ، خريج كلية الشريعة كنا نسميه ملا أحمد ، شاب خفيف الظل ظريف يحب الضحك والمزاح والتنكيت كثيرا ، قلت له يوما :-" ملاّ ! أنت مو خريج كلية الشريعة " ؟ ، فهم قصدي على أساس أن تصرفاته لا تليق بشخص سيصبح رجل دين لاحقا ! قال لي : "مو.. حفظتْ القرآن بعد شنو ، يطلبوني طْلابه " !! أما الملا ففور سماعه بقدوم الباشا فرح وقال : " أي د خلي يجي حتى ندردش ويا شويّا " قلتُ :" دردش ويا شنو !! قال شكو بيها .!! وبعد دقائق ونحن ملتهين بالأكل دخل الباشا القاعة دون أية حماية ومن دون ان يطلب منا الوقوف أو الإستعداد ، فكان يكره كل هذه الأتكيتات وفجأة الملا رفع يده وأخذ يصيح :" باشا باشا... ...!! " قلت له :" على كيفك شدت سوي " ! وبدأ الباشا يحادث الطلاب وهم يأكلون ويديه خلف ظهره الى يمينه وزير المعارف وعلى ما اذكر كان خليل كنه ، رجل قصير معتدل القيافة والى يساره آمر الكلية وبدأ ينتقل من مائدة الى أخرى ويسأل ويستفسر ... حتى وصل الينا ووقف بجانبي لأني كنت جالسا جهة الممشى كما ذكرت أعلاه .وقال : ـ " ها ... هنا منو صاح عليّ "ـ الملا : ... أنا باشا ! ـ الباشا وبين المبتسم والجاد قال وبهدوء وأحترام " گوم .. ها شعندك " ؟ والباشا أمسك إظهار أبتسامته ! وكأن يوجد معرفة سابقة مع الملا أو من امثاله! ـ الملا : " باشا أحنا طلاب كليات .. ! قابل ما نعرف نمشي ؟ ثلاثة اشهر يعلمونا المشي يس يم يس يم !! لو ناطينا سلاح جان أتدربنا عليه ورحنا لبيوتنا "!! ـ باشا بكل رزانة وهدوء وإبتسامة : " وأنت من يا كلية " ؟ ( يغير الموضوع ) ـ الملا :" من كلية الشريعة باشا " ؟ ـ الباشا : " زين وأنت شجابك علينا ما دگلّي " ؟ ـ الملا : " باشا أنتم جبتوني قابل آني جيت " !! ألتفت باشا الى وزير المعارف والأخير هز رأسه مفيدا بان طلاب كلية الشريعة أيضا مشمولين بالدورة ! ثم نظر الباشا الى المائدة وقال : ـ " زين و أنت ليش لام كل البصل الك ؟ وماخذ البصل من جماعتك؟ هلگد تحب البصل ترى البصل مو زين عالمعدة "!! ـ الملا : " باشا أنت ما جاوبتني على سؤالي ". ـ الباشا : " أنت وين ساكن " ؟ ـ الملا : " في محلة الجعيفر.. .باشا " . ـ الباشا " ها لعد أنت جيران احمد بابان زين سلملي على أحمد بابان .. . دأكعد لا تأكل البصل هوايا . البصل مو زين عالمعدة .."!! وإنتقل الباشا يدردش ! مع غيرنا من الطلاب . لم يأت الباشا نوري السعيد ، لا بموكب .. ولا تحيط به مفرزة لا من الجنود و لا الشرطة ولا دق له بوق للإصطفاف للإستقبال ولا للتوديع ، بل جاء بسيارة ستيشن كالتي كان يستعملها قادة الفرق ولم نشعر بقدومه ، بل دخل كما كان يدخل أساتذة الكلية الى الصفوف أو القاعات ، بل منهم استمروا بالأكل ولم ينتبهوا اليه ! طبعا لأنه رأس الرجعية لا يفيد الكلام معه ! ، بل لم يطلب منا القيام كما كنا نقوم للمعلم أو للقادة العسكريين أحيانا ، كان يكلمنا ويستمع الينا بكل أحترام وتقدير وبابتسامة ونكت لا يسمع صوته على بعد خطوات ولم يأخذ موقف الناصح أو الخطيب يخطب أو يقدم الإرشادات كوعاظ السلاطين . إذاً هذا هو نوري باشا السعيد نقف معه وجهاً لوجه ، نوري باشا ، والذي لم يظهر يوما على شاشة التلفزيون ليخطب أو ليوجه النصائح او التهديدات ، وأكثر العراقيين لم يروا صورته لا على صفحات الجرائد ولا على التلفزيون ولا سمعوا صوته من الراديو ! لأن كل القرارات التي كانت تصدر من مجلس الوزراء تذيعها المديرية العامة للنشر والإعلام . وكان يمقت التظاهر بمظهر الحاكم ككثير من الحكام والمتنفذين أشباه الأميين في الثقافة والسياسة . إذاً هذا هو الذي كنا ننادي بسقوطه حتى في الأيام التي لم يكن في السلطة رئيسا للوزراء أو حتى وزيرا !! هذا هو الذي دوّخ العراق و حامي ملوكه وقاتلهم في آن واحد ، كما أتهموه بقتل الملك غازي وربما فيصل الأول ، بل هو الذي كان محور السياسة في الشرق الأوسط ومعتمد بريطانيا في المنطقة ، هو نوري باشا السعيد الذي تكلمتْ عنه مس بيل راسمة حدود العراق السياسية !! وقالت : "عندما جلست مع نوري باشا لأول مرة شعرت كأنني أمام عملاق في السياسة " !! وكان الباشا كثيرا ما يختلف مع الانكليز بالرغم من أن البريطانيين كانوا يعترفون بأن نوري كان من أكبر رجالات الشرق الأوسط ....وكما تبين من وقائع مختلفة وعديدة ، ان نوري السعيد لم يكن مستعدا للتفريط بمصالح العراق ، ويكفي أن الإيرانيين ما كانوا يرغبون ان يشترك نوري بالمفاوضات التي جرت في بغداد بخصوص قضايا الحدود اواسط سنة 1933 !! "(سعاد رؤوف ـ رسالة ماجستير). وجاء في رسالتها ".... إن الجميع إعترفوا بنوري السعيد سياسيا ماهرا من طراز خاص ، ففي رأي البريطانيين كان نوري السعيد واحدا من ابرز ساسة الشرق الاوسط ، أما ( ويندل ويلكي ) المندوب الخاص للرئيس الامريكي فرانكلين روزفلت الى الشرق الاوسط إعتبر نوري السعيد من " أدهى الأدمغة " السياسية التي قابلها في حياته !!، أما الألمان فانهم اعتبروا أن نوري السعيد "دبلوماسيا بالمعنى " وأضافت السيدة سعاد في رسالتها : ".... واشاد بنوري السعيد كبار المسؤولين الاتراك الذين " جلبت قدرته الشخصية وسعة اطلاعه على تفرعات الامور انظارهم ، مما جعلهم يعتقدون بأن ليس في سوريا او مصر رجل دولة بمعياره " .[ و كأن الباشا يرى العراقيون اليوم ولسان حاله يقول ( جرّب غيري و أعرف خيري ) .. !!] .
منقول بتصرف (هرمز كوهاري ) .
جمع واعداد / خالد عوسي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق