تمسك الأمير عبد الاله ، الوصي على عرش العراق في العهد الملكي، بتقليد سنوي وهو ان يدعو تلامذة الكلية العسكرية الى بيته، قصر الرحاب لتناول وليمة العشاء معه بعد اجتيازهم الامتحان النهائي احتفالا بتخرجهم واستلامهم رتبتهم كضباط، رتبة ملازم ثاني.
حدث مثل ذلك عند تخرج دفعة عام 1951 فدعي الخريجين ليتناولوا العشاء التقليدي معه في قصر الرحاب. و رغم ان عميد الكلية ، الزعيم الركن عبد القادر سعيد، قد القى عليهم محاضرة في آداب السلوك الرسمي واصول الولائم الملكية، فإن اكثرهم كانوا قد انحدروا من عوائل شعبية بسيطة، واحيانا من القرى النائية في العراق دون ان تكون لهم أي خبرة سابقة في الولائم الراقية جمعهم الزعيم الركن عبد القادر سعيد والقى عليهم محاضرة مفصلة عن كيفية السلوك. وما تغلطون وتخلطون السكينة بالشوكة والشوكة بالملعقة.
تمسكون السكينة باطراف اصابعكم اليمنى و الشوكة باليد اليسرى . لا تنسون و تخزونا. الملعقة للحلويات . و ما تتكلمون الا لما سيدنا سمو الأمير يكلمكم. ولكن سرعان ما اختلطت عليهم القواعد و الاصول و راحت قطع اللحم و افخاذ الدجاج تتطاير يمينا و شمالا وتقفزمن صحن الملازم محمد الى حضن الرئيس الاول حمد و بالعكس، نتيجة سوء استعمال الشوكة و السكينة . ضاعت عليهم لذة الاكل و الشرب و بدأوا يشعرون وكإن هذه الوليمة اصبحت عليهم مثل معركة عسكرية، مشقة اكثر مما هي متعة . فلاحظ الامير عبد الاله ذلك فألقى من يديه الشوكة و السكينة جانبا . و توجه اليهم قائلا:-" يا اولادي لا تتكلفوا معي. اريدكم تعتبرون هذا البيت مثل بيتكم. و تاكلون كما تفعلون بين اهلكم في بيوتكم." ثم دفع الشوكة و السكينة جانبا و بدأ يأكل بيديه. فزال التكلف و انطلق الطلبة في الاكل على طريقتهم الشرقية التقليدية. يغرفون الباميا على الدجاج و التمن على الحلاوة و السمك على الشوربة ، وعلى ما يحلو لكل منهم و يطيب. كانت الوليمة قد اقيمت في حديقة القصر، و لدى انتهائها ، انفض الحاضرون للتجول في الحديقة و تبادل الحديث. غير ان نفراً منهم توغلوا الى ما هو ابعد من ذلك فدخلوا بهو القصر وتجولوا في الغرف. و هناك وجدوا في احدى الزوايا علبة من حلوى المن السما بالفستق. ففتحوها . و لما استطابوا طعم محتوياتها ، واصلوا الاكل منها حتى اتوا على نهايتها . فأغلقوا العلبة و اعادوها الى مكانها كما كانت و لكن فارغة بالطبع !!. بعد هنيهة من الوقت ، جمع الوصي الحاضرين و دعاهم لمشاهدة داخل القصر، فراح يطوف بهم في الغرف و الحمامات حتى وصل بهو الاستقبال فالتفت اليهم و قال: " و من حسن الصدف يا اولادي، انه وصلتني اليوم من تركيا علبة من (من السما) من نوع ممتاز . اسمحوا لي اشارككم بها قبل ان تغادروا البيت." التقط العلبة من مكانها فوجدها خفيفة على غير ما كان يتوقع. فتحها فإذا بها فارغة كليا من أي شيء. اسقط في يده و شعر بالحرج و كأنه كان يعمل مقلبا عليهم و يستهزيء بهم. غير ان التلميذ الضابط المسؤول عن اكلها اسرع لنجدته بكثير من الشجاعة. تقدم الى الامام و قال:- " آسف سيدنا. انا و الزملاء معي دخلنا قبل شوية في الصالون و شفنا علبة المن السما و اكلناها. تعذرنا سيدي." ساد صمت رهيب جوانب البهو. و لم يعرف عميد الكلية العسكرية عبد القادر سعيد ، ماذا يقول ، او كيف يعتذر عن تلاميذه. و لكن الامير عبد الاله اغناه عن الاعتذار. التفت الى التلميذ الضابط ، المسؤول عن الوقيعة، و قال له : " احسنت. و الحمد لله. الآن فرحتوني. انا قلت لكم ان تعتبرون هذا البيت بيتكم . و الان انتو تصرفتوا تماما كما لو كنتم في بيتكم . وعوافي عليكم كل هالمن السما" ، واستحسن الحاضرون كلماته فازدادوا انشراحا وانطلاقا في تلك الامسية الراقية من امسيات أيام الخير. وبقيت ذكراها في أنفسهم الى يومنا هذا يروون حكايتها لي ولأمثالي .
يوم من ايام الخير اللي فاتت وراحت.
تاليف. خالد القشطيني .
جمع واعداد خالد عوسي
حدث مثل ذلك عند تخرج دفعة عام 1951 فدعي الخريجين ليتناولوا العشاء التقليدي معه في قصر الرحاب. و رغم ان عميد الكلية ، الزعيم الركن عبد القادر سعيد، قد القى عليهم محاضرة في آداب السلوك الرسمي واصول الولائم الملكية، فإن اكثرهم كانوا قد انحدروا من عوائل شعبية بسيطة، واحيانا من القرى النائية في العراق دون ان تكون لهم أي خبرة سابقة في الولائم الراقية جمعهم الزعيم الركن عبد القادر سعيد والقى عليهم محاضرة مفصلة عن كيفية السلوك. وما تغلطون وتخلطون السكينة بالشوكة والشوكة بالملعقة.
تمسكون السكينة باطراف اصابعكم اليمنى و الشوكة باليد اليسرى . لا تنسون و تخزونا. الملعقة للحلويات . و ما تتكلمون الا لما سيدنا سمو الأمير يكلمكم. ولكن سرعان ما اختلطت عليهم القواعد و الاصول و راحت قطع اللحم و افخاذ الدجاج تتطاير يمينا و شمالا وتقفزمن صحن الملازم محمد الى حضن الرئيس الاول حمد و بالعكس، نتيجة سوء استعمال الشوكة و السكينة . ضاعت عليهم لذة الاكل و الشرب و بدأوا يشعرون وكإن هذه الوليمة اصبحت عليهم مثل معركة عسكرية، مشقة اكثر مما هي متعة . فلاحظ الامير عبد الاله ذلك فألقى من يديه الشوكة و السكينة جانبا . و توجه اليهم قائلا:-" يا اولادي لا تتكلفوا معي. اريدكم تعتبرون هذا البيت مثل بيتكم. و تاكلون كما تفعلون بين اهلكم في بيوتكم." ثم دفع الشوكة و السكينة جانبا و بدأ يأكل بيديه. فزال التكلف و انطلق الطلبة في الاكل على طريقتهم الشرقية التقليدية. يغرفون الباميا على الدجاج و التمن على الحلاوة و السمك على الشوربة ، وعلى ما يحلو لكل منهم و يطيب. كانت الوليمة قد اقيمت في حديقة القصر، و لدى انتهائها ، انفض الحاضرون للتجول في الحديقة و تبادل الحديث. غير ان نفراً منهم توغلوا الى ما هو ابعد من ذلك فدخلوا بهو القصر وتجولوا في الغرف. و هناك وجدوا في احدى الزوايا علبة من حلوى المن السما بالفستق. ففتحوها . و لما استطابوا طعم محتوياتها ، واصلوا الاكل منها حتى اتوا على نهايتها . فأغلقوا العلبة و اعادوها الى مكانها كما كانت و لكن فارغة بالطبع !!. بعد هنيهة من الوقت ، جمع الوصي الحاضرين و دعاهم لمشاهدة داخل القصر، فراح يطوف بهم في الغرف و الحمامات حتى وصل بهو الاستقبال فالتفت اليهم و قال: " و من حسن الصدف يا اولادي، انه وصلتني اليوم من تركيا علبة من (من السما) من نوع ممتاز . اسمحوا لي اشارككم بها قبل ان تغادروا البيت." التقط العلبة من مكانها فوجدها خفيفة على غير ما كان يتوقع. فتحها فإذا بها فارغة كليا من أي شيء. اسقط في يده و شعر بالحرج و كأنه كان يعمل مقلبا عليهم و يستهزيء بهم. غير ان التلميذ الضابط المسؤول عن اكلها اسرع لنجدته بكثير من الشجاعة. تقدم الى الامام و قال:- " آسف سيدنا. انا و الزملاء معي دخلنا قبل شوية في الصالون و شفنا علبة المن السما و اكلناها. تعذرنا سيدي." ساد صمت رهيب جوانب البهو. و لم يعرف عميد الكلية العسكرية عبد القادر سعيد ، ماذا يقول ، او كيف يعتذر عن تلاميذه. و لكن الامير عبد الاله اغناه عن الاعتذار. التفت الى التلميذ الضابط ، المسؤول عن الوقيعة، و قال له : " احسنت. و الحمد لله. الآن فرحتوني. انا قلت لكم ان تعتبرون هذا البيت بيتكم . و الان انتو تصرفتوا تماما كما لو كنتم في بيتكم . وعوافي عليكم كل هالمن السما" ، واستحسن الحاضرون كلماته فازدادوا انشراحا وانطلاقا في تلك الامسية الراقية من امسيات أيام الخير. وبقيت ذكراها في أنفسهم الى يومنا هذا يروون حكايتها لي ولأمثالي .
يوم من ايام الخير اللي فاتت وراحت.
تاليف. خالد القشطيني .
جمع واعداد خالد عوسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق