الخميس، 13 فبراير 2014

باجة الحاتي في صحون حكام بغداد




الصورة ... مطعم الحاتي ، في شارع الشيخ عمر من عام١٩٥٩

اذا كانت الموصل قد اشتهرت بأكلات لا تعد ولا تحصى ربما ابرزها اصناف (الكبي) فان بغداد منذ اكثر من 70 سنة ترفع لافتة عريقة في احد اعرق شوارعها تعلن عن باچة الحاتي!. لا ادري هل تستحق باجـة الحاتي هذه الشهرة.. البغداديون يتفقون ان هذه الباجـة ليست بحاجة الى اعلان او توصيف دعائي فهي (اشهر من نار على علم) كما يقال. في الايام الخوالي.. في ازهى سنوات عمري في صباي وشبابي كنت اسمع عن تسميات غريبة مثل ابن سمينة وابن طوبان والحاتي ولا اعرف لها معنى وكنت اظنها الغازا او احجيات ومنذ سنوات تذوقت اشهى طبق رز في مطعم ابن سمين (ابن سمينة كما هو مشهور) وفي احدى الليالي تمتعت بصحن ثريد في محل ابن طوبان بالكرخ ولكني لم استطع الوصول الى الحاتي الا بعد احتلال بغداد!. حدثني ضيفي وصديقي ليث ابراهيم العامري (الحاتي) عن بدايات انتشار الاكلة البغدادية الشهيرة التي صارت بعد اكثر من سبعين سنة جزءاً من تاريخ الملوكية والجمهورية في بغداد بل وصارت احدى الحكايات التي تروى عن اشهر رجالات بغداد في العهدين الملكي والجمهوري. قال السيد ليث وهو من مواليد بغداد 1949 ومتزوج وله عدد من الاولاد ويتولى ادارة مطعم الحاتي الشهير بالتعاون مع اشقائه:- ان اكلة الباجـة ليست غريبة عن المجتمع العراقي فقد اشتهرت هذه الاكلة ابتداءً في مدينة الموصل حيث كان الناس قد اعتادوا على تناولها في الفترة الصباحية واذا تأخر فإنهم يتناولونها في العصاري ولم يكن احد يقدم على تناولها في الليل!. ويضيف ليث: افتتح والدي محلا في شارع الشيخ عمر بجانب (علوة المخضر) ولكنه لم يجعله محلاً تقليدياً مثل بقية محلات بيع الباجـة في الموصل وبغداد فقد ادخل لاول مرة في حياة اهل بغداد صحون الفرفوري في تقديم الاكلة ورصفه كراسي خيزران اصيلة لجلوس الزبائن وهي حالة نادرة جداً وقتذاك اذ كان المرحوم عبدالرزاق علي صاحب محلات لاستيراد البضائع الاجنبية في شارع النهر في ثلاثينيات القرن الماضي هو المستورد الوحيد لهذا النوع من الكراسي التي استخدمها الباشوات والعوائل الثرية في بغداد وادخل والدي النشرات الضوئية ليضفي اجواء ساحرة على ليل بغداد بعد ان يرش العمال الماء على مساحة كبيرة امام المطعم.. كانوا في السابق يوزعون اكلة الباجـة في صحون فافون مقززة للنفس او تثبت هذه الصحون بمسامير على ارضية الموائد ويجلس الزبون على دكة او تنكة.. والدي اضفى لمسات جديدة على طريقة تقديم هذه الاكلة وليس على الاكلة بذاتها!. ويضحك ليث: في البداية افتتح والدي هذا المطعم بالقرب من (علوة المخضرات) في شارع الشيخ عمر حيث كان بياعة الخضر يصلون الى العلوة بعد منتصف الليل ولا يجدون ما يأكلون الا الباجة.. يعد والدي هو البغدادي العراقي الوحيد الذي اشاع اكل الباجـة في الليل بعد ان كانت مقبولة عند الناس في الصباح والعصر.. وكان البياعة عندما يجدون انفسهم صرعى الجوع يدخلون المطعم ليأكلوا الباجـة في الليل!. ولأن الليل ساحر وجذاب يومذاك - والكلام لم يزل للسيد ليث - وله عالمه الخاص من الناس الذين اعتادوا اللهو تحت استاره اخذ المطعم يقدم الباجة وجبة لذيذة للذين يقضون الليل سهارى! . ارتاد المطعم كبار رجال العهد الملكي بعد ان نال نصيبه من الشهرة وكانت عوائل الباشوات والبكوات والافندية تبعث بخدمها الى المطعم لملء القدور بالباجـة لتتمتع بوجبة عشاء طيبة. يستذكر ليث الحاتي جوانب من ذكريات والده المرحوم ابراهيم الحاتي (1901 - 1999) قائلاً: كان من اشهر رواد المطعم المرحوم صباح نجل نوري السعيد وكان صباح يأتي في ساعة متأخرة من الليل بعد ان يقضي وقته في اللهو المعروف عنه واحياناً يصطحب معه بعض من الفنانات المعروفات لتناول الباجة. في نهاية الاربعينيات زارت المطعم الشخصية البغدادية المعروفة رشيد مطلك وله صداقة مع ابراهيم الحاتي وبعد فترة من الصداقة اقترح رشيد على والدي افتتاح المطعم في مكان آخر ارقى من منطقة الشيخ عمر ووافقنا على افتتاحه في منطقة جسر مود (جسر الاحرار حالياً). يقول ليث: في احد الايام عصراً من عام 1948 انتبه والدي الى شاب انيق يرتدي بنطالاً وقميصاً يدخل المطعم ويجلس على كرسي ويطلب الشاي وحده من دون ان يطلب العشاء وتكررت زيارة هذا الشاب لثلاث مرات متتالية حيث يسحب كرسياً ويجلس ويطلب شايا فقط ما اثار انزعاج والدي فأمر عماله بعد تقديم اي شيء للشاب مادام يمتنع عن طلب صحن باجة وفي اليوم الرابع جاء الشاب ايضاً وكالعادة انتظر ان يقدم له العمال قدح الشاي فالتزموا بأوامر والدي ما دفع الشاب الى مغادرة المطعم على الفور وهو في حالة انزعاج شديد وانتظرنا ان يأتي في اليوم التالي لكنه جاء في اليوم الخامس وهو بزي عسكري يضع على كتفيه رتبة مقدم ركن!. كانت لهذه الرتبة اهتمام اجتماعي كبير وقتذاك... دخل الشاب الى المطعم وطلب استعمال الهاتف وقدم له فأجرى اتصالاً ثم غادر من دون ان ينبس ببنت شفة.. وجاء رشيد مطلك الى المطعم ذات يوم وعاتب والدي على تصرفه مع هذا الشاب الذي اتضح انه ضابط كبير واسمه عبدالكريم قاسم قائلاً له انه من محلتنا وابوه فلان وامه فلانة فكيف اسأت التصرف معه، فاعتذر والدي له ولعبدالكريم قاسم فيما بعد ولم يزر عبدالكريم مطعمنا الا في احدى الليالي بعد ثورة 14 تموز1958 وقال لوالدي اتذكرني، فاعتذر له مجدداً وتناول عبدالكريم مع مرافقيه صحون الباجة وغادرنا بين هتاف وتصفيق. ويستمر ليث في ذكرياته: عدد كبير من شخصيات العهد الملكي كانوا من رواد المطعم منهم نوري باشا السعيد وارشد باشا العمري وبيت الخضيري وعوائل المسؤولين. بعد وثبة 1952 حطم المتظاهرون زجاج واجهة مطعمنا في منطقة راس جسر مود فقرر والدي فك شركته مع المرحوم رشيد مطلك والعودة الى منطقة الشيخ عمر وافتتحنا مطعمنا الجديد - القديم وهناك كان يزورنا المسؤولون ويتناولون اشهر باجة في بغداد. ويقول ليث: تعرفت الى العميد قاسم الذي شغل - كما اخبرني - منصب آمر حراسة في كتيبة دبابات القصر الجمهوري في عهد الرئيس الراحل عبدالسلام عارف عام 1965 واخبرني العميد قاسم في حديث جانبي في مطار بغداد الدولي انه ذات يوم من عام 1965 بينما كان في القصر الجمهوري خرج عليه المرحوم الرائد عبدالله مجيد سكرتير عبدالسلام عارف ومرافقه الشخصي وكان الوقت متأخراً في تلك الليلة واخبره بوجود شغل لديه يضطره لمغادرة القصر من دون اعلام رئيس الجمهورية وان عبدالله طلب مني - العميد قاسم - ان اخبر الرئيس اذا سألنا بخروجه المبكر وفعلا ترك الرائد عبد الله سيارته الحديثة الاوبل في گراج القصر وغادرنا بسيارة واز عسكرية وبعد ثلاثين دقيقة على مغادرته فوجئت بالمرحوم عبدالسلام عارف واقفا قربي فسألني عن عبدالله مجيد فاخبرته انه غادر للتو بسيارة عسكرية تاركا سيارته الاوبل فرفع المرحوم عبدالسلام يديه الى فوق وقال لي:(آني اليوم مو بس ضايج.. جوعان) فقلت له:(هل اجلب لسيادتكم طعاما) فقال:(مشتهي باجة) فقلت: (سيدي هل اجلب لك الباجة) قال:(لا.. آني اروح اكل باجـة بره) فاقترحت عليه الذهاب الى مطعم ابن طوبان بالكرخ فصاح بي: (شلون الكرخ كلهم يعرفوني معناها راح يجتمعون علينا وماكو فايدة). واخيرا - والكلام للعميد قاسم - اقترحت عليه الذهاب الى مطعم الحاتي وفعلا ذهبنا الى هناك واوقفت السيارة في مكان مظلم حيث نزلت منها وحدي وذهبت الى صاحب المطعم واخبرته ان والدي عاجز ويرغب بصحن باجة ولكننا جلبنا صينية باجـة ووضعناها في السيارة حيث يجلس عبدالسلام وتناول الباجـة ثم كانت المشكلة في جلب الصابون وابريق الماء وهيأ صاحب المطعم مستلزمات غسل اليدين من دون ان يعرف ان رئيس جمهورية العراق جالس في السيارة قبالة المطعم يتناول الباجة!. ويبقى الحاتي الجزء الساحر والمثير من تاريخ بغداد في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.. والحاتي مشتقة من يحت اللحم وقد اطلق هذه التسمية المحامي غازي الاورفلي في اوائل خمسينيات القرن الماضي وكان من اشهر رواد (المطعم وصديق رشيد مطلك وابراهيم الحاتي). ألم اقل لكم ان وهج بغداد لايصنعه الباشوات والرؤساء والوزراء، بل تصنعه أنامل البغداديين؟
إقتباس بتصرف / شامل عبد القادر . — مع ‏قتيبه الحاتي‏ و‏قيس الحاتي الحاتي‏.
جمع واعداد خالد عوسي.

ليست هناك تعليقات:

أحدث مقال

جسر ونهر الخر (الشْطَيِطْ)

  جسر ونهر الخر (الشْطَيِطْ) . الصورة : ملتقطة من جهة ساحة النسور ، وعلى اليسار (قصر الرحاب) وعلى اليمين (قصر الزهور) الذي لم يظهر . شيد الع...