بغداد أم الدنيا و سيدة البلاد . يوم أضاءت عيون الجن شوارع بغداد .
ليست هناك مدينة في الكون مثل بغداد صنعت تاريخها بعذاباتها. مجَّدَها شعراؤها حتى وصفوها بجنة الخلد، وَرَثَوها بمراثيهم حتى وصفوها بأرض الخراب وينبوع الدم . ماتت ثم قامت للحياة عشرات المرات . انها بعشر ارواح. تستنسخ علماؤها وافذاذها وكرامها وشعراؤها مثلما تستنسخ أنذالها ولصوصها وطغاتها. انها اعجوبة الامل واعجوبة الالم، ورغم كل شيء تبقى بغداد هي بغداد كما وصفها ياقوت الحموي في معجم البلدان: 'ام الدنيا وسيدة البلاد'. بين سنة1917 وسنة 1929 اثنتا عشرة سنة. وفي هذه السنوات الاثنتي عشرة حصلت في بغداد احداث مهمة، لعل من ابرزها انتقال العراق من التبعية العثمانية الى التبعية البريطانية. فلقد انقضى عصرٌ أخذ من عمر العراق اربعة قرون، وبدأ عصر جديد اصبحت فيه بغداد تدار من قبل الجيش البريطاني، وكان على هذا الجيش ان يؤلف حكومة لبغداد وان يدير المدينة بما ينبغي ان يجعل اهلها يحبون العيش فيها لا ان يهجروها. لكن الحدث الاهم هو دخول 'الكهرباء' الى بغداد عام 1917. وتخيل حين تدخل الكهرباء الى بلد كان يعيش الحياة اليدوية، اي كل شيء كان يدار باليد وكانت ايدي الناس تتلمس الطريق بصعوبة وسط ظلام الحياة.. ظلام يخيم على العقول والنفوس حتى حين كانت الشمس تشرق على هذه المدينة التي تضع اقدامها في وحل الفيضان والاوبئة كل ثمانية اشهر من كل عام. ففي تشرين الاول من عام 1917 انتهت عمليات غرس اعمدة الكهرباء الضخمة في وسط بغداد. وربطت الاسلاك الناقلة للتيار الكهربائي عليها. وفي اول ليلة من شهر تشرين الثاني عام 1917 تألقت الانوار في الجادة الجديدة (شارع الرشيد).وخرج اهل بغداد عن بكرة ابيهم الى الشارع وراحوا يتحلقون حول اعمدة النور، ونظراتهم تتطلع الى اعلى حيث تلك المصابيح التي تشتعل بدون كاز او نفط او شخاط. كأنها عيون الجن. وراح بعضهم يصرخ بين المتجمعين بان هذه الاضوية تشتعل بسحر الشيطان. وان الانكليز الكفرة جاؤوا بالشيطان معهم بعد ان اخرجوا العراق من رحمة الخلافة الإسلامية.
جمع واعداد/ خالد عوسي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق