الاثنين، 3 أغسطس 2015

بروسلي في سينما الاعظمية




المقال : (بروسلي) في الأعظمية . الصورة : پوستر فلم (الرأس الكبير) الذي وضعته (سينما الأعظمية) عام 1973 .
في عيد الاضحى من عام 1973 ، وضعت سينما الاعظمية إِعلاناتها المصورة التي زينت واجهاتها بالالوان عن فلم اسمه الرأس الكبير وهو من اوائل افلام [الكونفو] للممثل الراحل بروس لي ، وقد انبهرنا نحن الاولاد بصورة بروس لي وهو يطير في السماء مطوحاً بقبضته في الهواء . تواعدنا نحن الاصدقاء على مشاهدة الفلم عصر اول يوم العيد ، وعلى دور الساعة السادسة . فالنهار قضيناه في معايدة الاهل والاقارب ، وضيعنا الظهيرة في نادي الاعظمية حيث كانت تقام الالعاب الترفيهية وانفقنا معظم العيدية على لعبة الدنبلة ، وانتبهنا اننا لم تبقِ في جيوبنا الا القليل من النقود وهي بالكاد تكفينا لتذكرة الفلم بأبو الاربعين . تجمعنا نحن ابناء محلة السفينة وكنا عشرة تقريبا من نفس الاعمار ومن الزملاء في متوسطة الاندلس المعروفة بشغب طلابها وتوجهنا صوب سينما الاعظمية ونحن نملأ الشارع صخبا وضحكاً وتصنيفاً احدنا على الآخر . كانت صحبة جميلة لم تكدرها حتى الالعاب الخشنة التي كنا نلعبها ككرة القدم والمصارعة الشعبية والطوّاطة في حديقة حجي بصرة او حدائق المقبرة الملكية . كان بيننا انسجام وصفاء ككل شلل الاصدقاء في تلك السنين . كان غانم ابن حسين أَطولنا وأكثرنا خشونة ، فكلفناه بان يشتري لنا التذاكر ، وهو يجيد التدافع للوصول الى شباك التذاكر ، ونحن عشرتنا كنا ندفعه من الخلف ليتقدم وسط الزحام ، كان الزحام شديدا لم تألفه السينما من قبل ، فاليوم اول ايام العيد وجيوب الاولاد ماتزال عامرة بنقود العيديات والفلم لبروس لي . وبالفعل وصل غانم الشباك بعد ان اطاح بالاولاد عن يمينه ويساره ، واشترى لنا اخر التذاكر . دخلنا من باب خشبي جانبي مخصص لهذه الفئة من المتفرجين وكانت المقاعد مريعة تدعو للسخرية وهي بلا ارقام طبعا وتعتمد على عضلاتك للحصول على مكان للجلوس ، ونحن الاصدقاء العشرة لم نتعب في هذه المهمة ، بل ان بعض الرواد لم يجدوا مكانا للجلوس الا على الارض او وقوفاً ، والبعض جاء بصفيحة فقلبها وجلس عليها ليتابع بروس لي .بدأ الفلم ، وشاهدنا العجب ، كان بروس لي يطير فعلا في الهواء واحدى قدميه مطوية ، ثم يضم اصابع يده اليمني ويوجهها الى بطن العدو فتنغرز فيها وتخرج معها احشاءه ويده ملطخة بالدم . كنا نشجع بروس لي على قهر الاعداء الشرسين الذين اعتدوا على عائلته ، والموسيقى الصاخبة تثير فينا غرائز العنف والوحشية . هاهو بروس لي يهجم عليه الاعداء من كل جانب ، يطوقونه بالسكاكين والعصي ، الا انه يصرعهم واحدا بعد الاخر ، ولكن احد الاعداء يتربص ببروس لي من الخلف وبيده مطواة فوجدنا انفسنا نصرخ ببروس لي ان ينتبه ان هنالك وراءه احد الاعداء ، فيسمعنا بروس لي ويجهز على العدو بركلة خلفية من قدمه ثم يستدير عليه ليدخل اصابعه في صدره فيسقط صريعاً وسط صراخنا الذي بدأ يعلو خصوصا بيننا نحن متفرجوا خانة ابو الاربعين . كان بروس لي يصيح مع كل ضربة يوجهها للاعداء صيحات زاعقة بصوت رفيع لكنه مؤثر فيشد اعصابنا ويغلي الدم في عروقنا . انتهى الفلم ، واجسادنا مليئة بالطاقة المتفجرة ، خرجنا من السينما ونحن نردد صرخات بروس لي ، ونحاول تقليده في الطيران بالهواء ، كانت وجوهنا مشدودة بالتوتر العصبي ، واصابعنا مضمومة ، وارواحنا متوثبة لاي عدو قد يأتينا من الخلف . لعب الفلم بعقولنا ، وزمجر احدنا للاخر ، والانفعالات وصلت لأقصى مدى ، حاول غانم ابن حسين ومحمود ابن حليمة ان يجدوا جماعة نتعارك واياهم لكن الكل كان مشغولا بالعراك ، المعارك حولنا ، وقد تطايرت كاسات اللبلبي واقداح الدوندرمة وتكسرت عربات الباعة المتجولين ، الكل كان يتعارك مع الكل ، وكلهم كان يردد صيحات بروس لي ، يطيرون في الهواء مثله لكنهم يسقطون على ظهورهم ، يضربون بطون الاخرين باصابعهم وبعدها يصرخون ولكن من ألم الاصابع . النار تطلع من افواهنا ، لكننا لم نجد احداً نخرج شحنات غضبنا عليه وفجأة وجدنا غانم وهو يمسك بتلابيب محمود دون سبب ، فيصرعه . يتدخل احدنا لايقافه ، فيضربه غانم بقدمه على بطنه . يهب ليث ابن كرومي دفاعا عن محمود فيطير في الهواء وهو يصرخ بصوت زاعق مثل بروس لي ، لكن ضربته تصيب عدنان بالخطأ ، فيثور عدنان للرد عليه . يتدخل علي ابن خالتي وكان خفيف الحركة ليدافع عن ليث ، فيصده ابراهيم ابن فتحية ، لكن صلاح وكان اكثرنا تعقلا يحاول ايقاف المعركة فتأتيه ضربة من الخلف فينسى تعقله وبدأ بضرب كل من يجده امامه ،،، اشتبكنا جميعنا بالعراك ، وكل منا يتخيل نفسه بروس لي والاخرون اعداءه ، حتى تمزقت ثيابنا الجديدة ، وسقطنا على الارض منكوشي الشعر ، منهكين من التعب . لقد خرب علينا بروس لي صداقتنا ، واصبح احدنا يحقد على الاخر ، ونشتم بعضنا بعضا دون ان نعرف سببا واحداً لهذه المعركة الجماعية . ان الصحبة الطيبة التي ورثناها عن عوائلنا عبر جيرة العمر سرعان ماتبخرت في فلم الرأس الكبير . صباح اليوم التالي التقينا [من غير ميعاد] في نادي الاعظمية ، فليس هنالك من مكان اخر نذهب اليه ، وما ان التقينا حتى اخذنا بعضنا بالاحضان والقبل ونحن نضحك على ما فعلناه بالامس .
فجأة قال لنا غانم : مارأيكم ان نذهب للسينما ؟
- سينما من جديد ، واي فلم معروض ؟
- وهل هنالك غيره ، طبعا فلم بروس لي .
صحنا بانفعال مستهجنين الاقتراح و تجمعنا على غانم ونحن نضربه ضاحكين وهو يركض امامنا فيما نصرخ خلفه مثل الرأس الكبير . 

تاليف/ د. ظافر العاني
جمع واعداد/ خالد عوسي

ليست هناك تعليقات:

أحدث مقال

[بعد ثلاثة عقود على وفاته] ماذا عن عوسي الضاحك أبدا ؟

  [بعد ثلاثة عقود على وفاته] ماذا عن عوسي الضاحك أبدا ؟ الصورة : عوسي الأعظمي على إحدى الصحف الإنگليزية ، منتصف الأربعينات . المقال : جاسم م...