الثلاثاء، 19 نوفمبر 2013

الافندية فـي ماضيهم وحاضرهم

 


صورة الأفندية ، من اليمين - نوري السعيد/ جعفر العسكري/ جودت الأيوبي - عام ١٩٠٩م .

كان الفرد العامي يفضل ان يعلم ابنه مهنة يدوية يكسب بها رزقه في كبره، ولم يكن احد من العوام يحلم ان يكون ابنه افندياً  في يوم من الايام واذا ساعدت الظروف احد ابناء العوام على ان يكون افنديا يلبس الطربوش والزي الحديث صار موضعا للاستغراب ، وربما الاستنكار في نظر الكثيرين ولا سيما في نظر زملائه الافندية فهم لاينسون ماضيه «الوضيع».وقد يشتمونه به في ساعة الخصام. وما زلت اذكر بيتا من الشعر كان بعض الناس يرددونه بينهم في العشرينيات من هذا القرن هو:-


من تردى برداء ليس من شأن ابيه
سوف يأتيه زمان يتمنى الموت فيه


ان الانغلاق الطبقي الذي كان سائدا في العراق بالعهد العثماني – على الذي ذكرناه انفا – لم يكن في مقدوره ان يبقى على حاله تجاه تيار الحضارة الحديثة الذي بدأ يتسرب الى المجتمع منذ اواخر القرن التاسع عشر. اول سبب نحو الانفتاح الطبقي ظهر في عهد السلطان عبد الحميد الثاني.. فقد كان هذا السلطان بالرغم مما اشيع عنه يميل الى التجديد، غير انه كان يحب التجديد على طريقة التدرج البطيء.. وهي الطريقة التي كان يسميها «يواش يواش» أي خلاف طريقة الطفرة التي كان يؤمن بها مدحت باشا. امر السلطان عبد الحميد بفتح مدارس داخلية عسكرية في مختلف الولايات العثمانية وكان التلاميذ الذين يقبلون في هذه المدارس يعيشون على نفقة الدولة.. حتى اذا تخرجوا فيها سفروا الى اسطنبول ليدخلوا الكلية الحربية فيها ويتخرجوا فيها ضباطا في الجيش العثماني. كانت هذه المدارس منفذا استطاع بعض ابناء العوام ان يدخلوا سلك الافندية عن طريقها ومن الجدير بالذكر ان الوجهاء والاسر المعروفة لم يكونوا يرغبون ان يدخلوا ابناءهم في هذه المدارس بل كانوا يفضلون ادخالهم في المدارس «الملكية» أي المدنية، فالمدارس العسكرية كانت داخلية، وكان الوجهاء يخشون على ابنائهم من الدخول فيها، كما كانوا يستنكرون من ان يعيش ابناؤهم على نفقة الدولة. فتحت اول مدرسة عسكرية في بغداد عام 1879 وكان عدد تلاميذها ثلاثة عشر وكان مقرها قرب سواق السراي في البناية التي ما زالت قائمة وكانت داراً للمحاكم في عهد مضى. وعندما تخرج تلاميذها منها في عام 1881 سفروا الى اسطنبول على ظهور الخيل والبغال، واخذ عدد تلاميذها يزداد سنة بعد سنة، وكان يجري تسفيرهم كل سنة على التوالي. في عام 1899 جرى تسفير الدفعة التي كان من تلاميذها ياسين حلمي وهو الذي عرف فيما بعد باسم ياسين الهاشمي» وكان ابوه مختارا لاحدى محلات بغداد القديمة، وبعد اربع سنوات جرى تسفير الدفعة التي كان فيها اخو ياسين أي طه الهاشمي يحدثنا علي جودت الايوبي في مذكراته، وكان من جملة التلاميذ الذين جرى تسفيرهم في عام 1903 مع طه الهاشمي، فيقول:- انهم وصلوا الى حلب بعد رحلة على ظهور الخيل استغرقت 25 يوما وكان عددهم نحو سبعين تلميذا وبعد ان مكثوا في حلب اسبوعا تحركوا في قافلة نحو الاسكندرية فوصلوها بعد اربعة ايام ، وقد شاهدوا في تلك المدينة اول مرة في حياتهم مسارح ترقص وتغني عليها يونانيات ثم ركبوا باخرة اوصلتهم الى اسطنبول وقد استغرقت رحلتهم من بغداد الى اسطنبول 45 يوماً ويقول الايوبي انهم وجدوا في اسطنبول اكثر من سبعمئة تلميذ من الولايات العثمانية التي فيها مدارس عسكرية بغية الدخول في الكلية الحربية، وقد جرى امتحان القبول لهؤلاء التلاميذ. بلغ عدد التلاميذ العراقيين في الكلية الحربية في اواخر العهد العثماني نحو خمسمئة ، بينما بلغ عدد العراقيين الذين يدرسون على نفقة اهلهم في الكليات الاخرى كالحقوق والطب نحو خمسين ، ان المقارنة بين هذين الرقمين تدل على ان الذين كانوا يدرسون على نفقة الدولة كانوا في الغالب من ابناء الطبقة الفقيرة والوسطى، ومعنى هذا ان المدارس العسكرية كانت عاملا مهما من عوامل الانفتاح الطبقي، لان الذين تخرجوا في الكلية الحربية قد اصبحوا من الافندية ونال بعضهم المناصب العليا في مستقبل الايام. كان من بين الذين تخرجوا في الكلية الحربية ياسين الهاشمي واخوه طه، وهما كما ذكرنا ابنا مختار محلة من محلات بغداد القديمة، وكذلك كان من بينهم علي جودت الايوبي وكان ابوه عريفا في سلك الجندرمة في الموصل، وكان من بينهم نوري السعيد وكان ابوه موظفا صغيرا، وجعفر العسكري وكان ابوه ضابطا اصله من قرية عسكر في شمال العراق .


 (مقتبس من مقالة   د.علي الوردي ) 
جمع واعداد: خالد عوسي.

ليست هناك تعليقات:

أحدث مقال

جسر ونهر الخر (الشْطَيِطْ)

  جسر ونهر الخر (الشْطَيِطْ) . الصورة : ملتقطة من جهة ساحة النسور ، وعلى اليسار (قصر الرحاب) وعلى اليمين (قصر الزهور) الذي لم يظهر . شيد الع...