الجمعة، 1 نوفمبر 2013

الجقماقجي - وذاكرة العراق الموسيقية



( الصورة -شارع الرشيد ) 
لم يدر في خلد المرحوم الحاج فتحي چقماقچي ان هوايته في جمع اسطوانات الغناء المتداولة بشكل محدود انذاك، ستصبح في يوم ما واحدة من اهم مصادر التراث الموسيقي والغنائي العراقي، فلم يكن الشاب فتحي موسيقيا او مطربا، بل مجرد مصلح اسلحة لاتعدو عن كونها بنادق بدائية قديمة مصنوعة في اسطنبول كان يستخدمها الجيش العثماني انذاك، وقد سعى لامتلاك احد (الكرامافونات) التي تعمل بالكوك كونه هاويا لسماع الموسيقى والغناء، فترسخت الهواية لديه وهاجرالى بغداد وأسس اول شركة اسطوانات في العراق والمنطقة، وظل لقب الجقماقجي الذي حصل عليه من اسطنبول ملازما له حتى وفاته. اذ جاءت التسمية من صوت البندقية عند حشوها خلال عملية التصليح وتجربتها قبل تسليمها الى الزبون، فهي عندما تفتح تصدر صوت (چق) وعندما تغلق (ماق) وعند اطلاقها (چي) وكان الناس يسمون مصلح الاسلحة في تركيا جقماقجي ككلمة شعبية دارجة على من يعمل في تصليح البنادق في الاسواق وليس في الجيش فقط، في ذلك الوقت كانت الاغنيات تسجل على الاسطوانات الحجرية التي تعمل على الكرامافون اليدوي، فعمد الجقماقجي بتأسيس ستوديو تسجيل خاص بالشركة التي اسسها، وبدأ بتسـجيل حفــلات المطربين الخاصة، في وقت لم يكن اي ستوديوتسجيل في العراق، عدا ستوديو الاذاعة اللاسلكية، اذ كانوا يستضيفون المطرب والفرقة الموسيقية والكورس معا، ثم ترسل نسخة التسجيل الى معامل صناعة الاسطوانات الحجرية في اليونان ليتم استنساخها حسب العدد المطلوب لتعاد بعدها الى العراق فتتولى الشركة تسويقها، وقد راجت عملية تداول الاسطوانات في الاسواق وخاصة بعد ان اصبحت تصنع من مادة البلاستيك، من ابرز المطربين الذين سجلت اغانيهم على اسطوانات الشركة، داخل حسن، ومسعود العمارتلي، وحضيري ابو عزيز، وناظم الغزالي وبقية المطربين والمطربات. 

تاسست الشركة بشكل رسمي في العام 1918 في بغداد باسم (شركة الحاج فتحي جقماقجي واولاده) وفي بدايتها كان الاهتمام منصبا على الاستيراد للمواد والاجهزة الكهربائية ومن ضمنها “الحاكي الكرامافون” و الاسطوانات حتى تطور الامرالى تسجيل اغاني المطربين العراقيين والعرب، وقد تعلم اولاد الحاج فتحي (عبدالله ونجم الدين) اسرار المهنة فاصبحوا كثيري السفر الى القاهرة لعقد الاتفاقات مع المطربين والمطربات لتسجيل اغنياتهم في ستوديوهات مؤجرة ثم ترسل الى الخارج لطبعها على اسطوانات وتكون الحقوق محفوظة لشركة چقماقچي. بعد وفاة مؤسس الشركة تسلم ادارتها ولده عبدالله فتحي چقماقچي، وكان مولعا بأغلب المطربين المصريين وبالاخص عبد الوهاب وأم كلثوم، واحتفظ عبد الله بنسخ اصلية لتسجيلات نادرة كانت تغلط فيها ام كلثوم فتعيد التسجيل اكثرمن مرة وهي جزء من مكتبة صوتية ضخمة فيها اكثر من تسجيل للاغنية الواحدة، بالاضافة الى الاشرطة التي تسجل الاحداث والوقائع النادرة، وهي مازالت موجودة لدى احفاده، وقد عرضت الحكومة الكويتية عرضا لشرائها في سبعينيات القرن الماضي، الا ان حفيد چقماقچي رفض بيعها رغم المبالغ الكبيرة التي دفعها الكويتيون اذ اعتبرها ثروة وطنية ثمينة وجزءا من تاريخ الشركة والتراث العراقي. اتخذت محال چقماقچي في بداية شارع الرشيد من جهة الباب الشرقي موقعا متميزا منذ سبعينيات القرن المنصرم اذ كانت مرجعا لطلبة معاهد الموسيقى والغناء في بغداد والمحافظات، وكذلك لجميع هواة الموسيقى والغناء، آلاف الاسطوانات وأشـرطة الكاسيت لمختلف المطربين العراقيين والعرب المشهورين وغير المعروفين . وفي كثير من الاحيان كانت الاذاعة والتلفزيون تستعين بتسجيلات الجقماقچي لتقديم بعض البرامج الفنية التي لاتجد لها ارشيفا في مكتبتها الحكومية، وكباقي الرموز التراثية التي اندثرت بسبب الاهمال وعدم الاهتمام من قبل المؤسسات الرسمية المعنية، لم تستطع اخر بقايا اول شركة تسجيل في العراق من مقاومة رياح التجدد في تقنيات علم التسجيل والسماع وبروز اقراص السي دي وأنظمة البلوتوث وغيرهما من الوسائل الاخرى، لكن السبب الحقيقي و الرئيس في تلاشي شركة الجقماقجي للتسجيلات هو لامبالاة القائمين على المؤسسات التراثية وتركها لوحدها تواجه مختلف التجاوزات والمضايقات ما جعلها تغلق ابوابها في منتصف التسعينيات ولم يبق منها سوى الاسم الذي مازال عالقا في اذهان محبي الموسيقى والغناء.

ليست هناك تعليقات:

أحدث مقال

جسر ونهر الخر (الشْطَيِطْ)

  جسر ونهر الخر (الشْطَيِطْ) . الصورة : ملتقطة من جهة ساحة النسور ، وعلى اليسار (قصر الرحاب) وعلى اليمين (قصر الزهور) الذي لم يظهر . شيد الع...