(صورة تنشر لأول مرة - بعد نجاح حركة 8 شباط عام 1963م - رئيس العراق عبد السلا م عارف يتجول مع أحد ضيوفه في بغداد - شارع الرشيد ) .
قبل (50) عاما قامت ثورة او انقلاب عسكري او حركة (لاتهم التسميات وانما نجاح الفعل ونتائجه واثاره) في يوم الجمعة 8 شباط الموافق يوم الرابع عشر من شهر رمضان من عام 1963اطاحت بحكومة عبدالكريم قاسم الذي جاء هو الاخر عن طريق انقلاب عسكري نفذه 100% المرحوم العقيد الركن عبدالسلام عارف آمر الفوج الثالث في اللواء العشرين الذي نجح بالاستيلاء على آمرية اللواء بعد عزل امر اللواء الحقيقي الزعيم الركن حقي محمد علي الذي كان مصابا بالانفلونزا الشديدة ما جعل عارف ينتهز هذه الحالة المرضية ويقنع آمره بالذهاب الى الفلوجة على ان يلتحق به اللواء فيما بعد، وتولى عارف آمرية اللواء نتيجة الفراغ، ولأن عارف هو اقدم الضباط رتبة في اللواء نفسه قاد لواءه الى بغداد بدلا من الاردن للاطاحة بالحكم الملكي، وقام قبل ذلك باعتقال العقيد الركن ياسين محمد رؤوف آمر الفوج الثاني الذي رفض الانصياع لأوامر عارف بتنفيذ الانقلاب العسكري ضد النظام الملكي فأمر عارف باعتقاله فورا. هذه العملية التكتيكية لا يعرف بها عبدالكريم قاسم ولم يخطط لها ابدا، إذ لم يشر اليها لا من قريب ولا من بعيد، خاصة بعد ان طرد عارف رفيقه وصديقه ومنفذ ثورته الذي وضع المناصب الاولى على صحن ذهبي أمام قاسم من جميع مناصبه واحاله الى محكمة المهداوي والحكم عليه بالاعدام،لم يشر قاسم الى تكتيك عارف ابدا في جميع مراحل حكمه حتى بعد ان اصبح "الزعيم الاوحد" للعراق!.
كان الدور الوحيد لقاسم أن يأتي الى بغداد على رأس لوائه التاسع عشر ويتسلم مناصبه ويصبح في رمشة عين ومن دار الاذاعة وبصوت صديقه عارف رئيسا للوزراء.. اول رئيس وزراء بعد الباشا نوري السعيد!. كان قاسم نزيها عفيفا نظيف اليد، وفي الوقت نفسه عاشقا للحكم والسلطة، مولعا بتمجيد شخصه، ووافق ان يكون " الزعيم الاوحد" وهو اللقب الذي منحه له زيفا ورياءا وتملقا الحزب الشيوعي العراقي .. قبل ان يمر شهرين على الثورة حتى اطاح قاسم بعارف صانع الثورة الحقيقي، وأذله وأهانه امام العراقيين والعرب والعالم بسجنه ومحاكمته!. كان مولعا بفبركة المؤامرات لخصومه وعرضهم امام المهداوي لإهانتهم، كالذي فعله مع المرحوم رشيد عالي الكيلاني. وكشر قاسم عن انيابه بعد فشل انتفاضة العقيد الركن عبدالوهاب الشواف وهرس ارواح 36 ضابطا حرا بتهمة التآمر ضد نظامه، والغريب ان قاسم وهو يعادي الشيوعية والشيوعيين أصر على ارسال وفود انصار السلام الشيوعيين الى الموصل، وهو يعرف طبيعة أهل الموصل المحافظة الاسلامية المعادية للفكر الالحادي الشيوعي، وبسبب عناده حصلت مجزرة الموصل، وقتل من جرائها وسحل بالحبال عشرات الابرياء، وعلقت جثث النساء فوق اعمدة الكهرباء..وفي 14 تموز من العام نفسه (1959) نفذ الشيوعيون مجزرة جديدة هي أكثر بشاعة من مجزرة الموصل، وفي هذا الوقت هاجم عبدالكريم قاسم الحزب الشيوعي والشيوعيين ووصفهم بالبرابرة والمغول!. ان شيوعيا واحدا هو سلام عادل كان اجرأ القادة الشيوعيين في نقد سياسات عبدالكريم قاسم المعادية للشيوعية، ولم يتخل سلام عادل عن موقفه حتى عند مقابلته لقاسم في مكتبه بوزارة الدفاع. كان سلام عادل ممتعضا من تصريحات قاسم التي ادلى بها بمناسبة عيد العمال العالمي في 1 ايار 1959 عندما قال: ان الحزبية رجس من عمل الشيطان!. في الوقت الذي كان فيه مزاج الوطن العربي كله ناصريا ووحدويا وكان عبدالناصر شخصية عالمية تهيمن على العرب وحتى على عبدالكريم قاسم كان الاخير يحاول الاحتماء بالحزب الشيوعي خوفا من الجماهير التي كانت تصدح بالوحدة الفورية والالتحاق بالجمهورية العربية المتحدة، ولهذا وقف قاسم بقوة ضد التيار القومي والوحدوي مرتميا في احضان الشيوعية المحلية، مفضلا الموت على ان ينجز اية خطوة باتجاه الوحدة العربية آنذاك!. بصراحة عاش قاسم ومات وهو كاره للوحدة والشعارات القومية والعروبية، بل كاره في الوقت نفسه للشيوعية والتيارات اليسارية الاصلاحية!. لقد وضع قاسم في السجون والمعتقلات اضعاف اضعاف ما وضعه العهد الملكي في سجونه ومعتقلاته طوال 37 سنة.. وزع قاسم الاراضي والبيوت بين الفقراء، ووضع الحبال في اعناق معارضيه، وزرع عشرات الرصاصات في قلوب رفاقه وزملائه من الضباط والسياسيين!. لقد خسر قاسم في السنة الاولى من حكمه اغلب القوى السياسية التي عاضدت ثورة 14 تموز .. خسر سلام عادل وكسب الغوغاء .. خسر كامل الجادرجي وفؤاد الركابي ورشيد عالي الكيلاني وعبدالسلام عارف وعبدالوهاب الشواف وعشرات الضباط .. ولأنه لم يتردد عن اعدام (36) ضابطا حرا تقرر اعدامه هو!.
وفي 7 تشرين الاول من عام 1959 تصدت له كوكبة من الشباب لاغتياله إلا ان المحاولة فشلت لتنجح المحاولة (39) والاخيرة في 8 شباط 1963. بعد خمسين عاما على حركة 8 شباط نقول ان القائمين بها كانت ردود افعالهم كبيرة وقاسية جدا ضد الشيوعيين وضد عبدالكريم قاسم نفسه!. لم يكن مطلوبا اعدام الرجل ابدا .. ولم يكن مطلوبا انجاز (ثورة) على طريقة الثارات العشائرية..كما لم يكن مطلوبا اعتقال الالاف من الشيوعيين والقاسميين بسبب ميولهم الفكرية والعاطقية.. ولكن من كان يمنع هذه الروح الثأرية ضد الشيوعيين الذين لم يرحموا خصومهم ايام مدهم الاحمر ومؤازرة قاسم لهم، والى جانبهم يقف مؤيدا جلال الاوقاتي ووصفي طاهر وفاضل المهداوي وماجد امين وهاشم عبدالجبار وسعيد مطر وعشرات الضباط الشيوعيين أو الذين ارتدوا القمصان الشيوعية نفاقا ورياء.. السؤال الاخير: هل كان انقلاب 8 شباط ضروريا؟!. لم يكن ضروريا بل حتميا!.
ان تشبث عبدالكريم قاسم بالحكم حال دون رؤية مصيره المحتوم .. ماذا كان يتوقع من مصير وهو يضع الشيوعية في قلب العراق في منطقة حساسة ودقيقة كالشرق الاوسط تعيش صراعا قاسيا في أتون الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفيتي!. كنت اتمنى ان يتحول قاسم الى شيوعي حقيقي كالذي قام به كاسترو للحفاظ على سلطته ونظام حكمه لا الى حاكم قلق، يعتمد مبدأ (فرق تسد)، مرّة يضطهد الشيوعيين ويضعهم في السجون والمعتقلات، وتارة يطارد البعثيين والقوميين والناصريين أو بالعكس يقرب خصومه ويمنحهم المناصب ويبعد انصاره عن مراكز القوة. اقول بصراحة كان اسقاط قاسم حتميا، واذا لم يقع انقلاب 8 شباط كان سيقع انقلاب آخر، ولكن ليس بالضرورة انقلابا اميركيا اسود.. هل كان لنا ان نسمي الانقلاب اسود على اي انقلاب يقوده الحزب الشيوعي لإزاحة قاسم.. وللعلم كانت قواعد الحزب الشيوعي تضغط باتجاه قلع قاسم عن الحكم، وفي مقدمة المطالبين كان المرحوم جلال الاوقاتي قائد القوة الجوية!. لو قدر الفشل لانقلاب 8 شباط لكان الحزب الشيوعي هو اول من يحاسبه قاسم ويحاكم قادته ويعلقهم من رقابهم بسبب الفوضى التي اشعلوها في بغداد، وقاسم مازال حيا يرزق.. هل يعرف القاسميون المتحالفون اليوم مع الشيوعيين في كراهيتهم لكل معارض لقاسم لماذا رفض المرحوم عبدالكريم قاسم تسليح (الجماهير) لمقاومة الانقلاب، وفضل الموت ونجاح الانقلاب على تسليح هذه الجماهير؟!. الجواب ببساطة: لأن عبدالكريم قاسم حتى يوم 8 شباط كان متقاطعا كليا مع الشيوعيين، وفضل اعادة الضباط البعثيين والقوميين الى الجيش والى وحداتهم الفعالة كالدروع نكاية بالشيوعيين، حتى انه اتصل بحزب البعث قبل ثورة 14 رمضان لترشيح شخصيات بعثية وزراء في حكومته إلا ان علي صالح السعدي رفض وساطة الزعيم.. كان عبدالكريم قاسم يعرف ان مصدر اقتراح تسليح الجماهير هما وصفي طاهر وسعيد مطر، وكلا الضابطين عضوان في الحزب الشيوعي حتى ان سعيد مطر شتم الزعيم وغادر وزارة الدفاع تاركا زعيمه يلاقي مصيره وحده. كان قاسم يدرك تماما ان تسليح الجماهير يعني في منطق (هؤلاء) هو تسليح الشيوعيين، ولهذا رفض بإصرار هذا المبدأ، لأنه يعرف ان السلاح الذي يأمر بتوزيعه سيكون أداة بيد الشيوعيين لقتال الانقلابيين من اجل وثوبهم الى السلطة وقتل الزعيم نفسه!.
بعد هذا كله، لماذا يصر الشيوعيون على الاحتفاء بعبدالكريم قاسم الذي كرههم حتى ساعاته الاخيرة؟!
للكاتب ( شامل عبد القادر )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق