الصورة لجامع الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان عام 1966م
ولد أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي بن ماه الكوفي بمدينة الكوفة بالعراق سنة 80 هجرية وعاش حياته يسعى إلى طلب العلم والرزق معاً، ولا يطلب العلم إلا من أهله، ولا يأكل إلا من عمل يده لأن مبدأه في الحياة كان أن يكرم نفسه وعلمه عاقداً العزم على ألا يأكل إلا من كسب يده، وظل على هذا المبدأ إلى أن توفاه الله عام 150 هجرية، حيث دفن في مقبرة الخيزران في بغداد.
كان الإمام أبو حنيفة من العابدين الزاهدين الساعين إلى إبتغاء رضا الله ورحمته، واصلاً للارحام عفيف اللسان حريصا على مساعدة الفقراء والمحتاجين، لأ يألوا جهداً في التخفيف عن هموم الآخرين والتفريج عن كروبهم، صواماً بالنهار، قواماً بالليل، مستغفراً بالأسحار، قارئاً للقرآن الكريم، ومتفكراً في آياته.وكان إذا قرأ «سورة الزلزلة» اقشعر جلده، وخاف قلبه ويقول:» يا من يجزي بمثقال ذرة خيرا فخير، ويامن يجزي بمثقال ذرة شراً شراً أجر عبدك النعمان من النار، وباعد بينه وبين ما يقربه منها». وكان من أولئك الذين يقيمون الصلاة ويأتون الزكاة، فقد كان رضي الله عنه يحصي كل عام أرباح تجارته ويستبقي منه ما يكفي لأعمال البيع والشراء، ثم يقوم بإعطاء ما يتبقى-على كثرته- للفقراء والمحتاجين واليتامى.ويقال إن الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان كان ذات يوم سائراً في الطريق والتقى جماعة من الناس وسمعهم يقولون فيه: «إن هذا الرجل الذي ترونه أمامكم لا ينام الليل.. فقال لهم: إني عند الناس على خلاف ما أنا عليه عند الله تعالى والله لا يتحدث الناس عني منذ الساعة بما لا أفعل، ولن أتوسد فراشا بعد اليوم حتى ألقى الله».وكان من أخلاقه رضي الله عنه أنه كان «طيب المعاشرة، حلو المؤانسة يسعد به جليسه ولا يتعب به من غاب عنه، ولو كان عدواً له».. وقد حكي أحد الأصدقاء المقربين منه أنه سمع عبدالله بن المبارك يقول لسفيان الثوري يا أباعبدالله ما أبعد أبو حنيفة عن الغيبة، فما سمعته يذكر عدواً له بسوء قط، فقال له سفيان: إن أبو حنيفة أعقل من أن نسلط على حسناته ما يذهب بها.ومن الصفات التي عرف بها أيضا جوده وكرمه ويقال عنه في ذلك أنه كان إذا انفق على عياله نفقة تصدق بمثلها على غيرهم من المحتاجين.. وإذا اكتسا ثوباً جديداً كسا المساكين بقدر ثمنه، وكان إذا وضع الطعام بين يديه عرف منه ضعف ما يأكله عادة ودفع به إلى الفقراء.وتذكر كتب السيرة ومآثر التابعين أن إمرأة عجوز أقبلت على أبو حنيفة ذات يوم تطلب ثوباً من حرير، فلما أخرج لها الثوب المطلوب قالت له: إني امرأة عجوز ولا علم لي بالأثمان، فبعني الثوب بالثمن الذي اشتريته على أن تأخذ ربحاً قليلاً فيه لأني امرأة فقيرة وليس معي من المال الكثير، ولأنه كان محباً لفعل الخير فقد قال لها: «إني اشتريت ثوبين اثنين في صفقة واحدة ثم إني بعت أحدهما برأس المال إلا أربعة دراهم فخذيه بها ولا أريد منك ربحاً».ومن الصفات الطيبة التي تميز بها أبو حنيفة أنه كان لا يبتغي إلا مرضاة الله ولم يسع يوماً إلى خطب ود الملوك والأمراء، ويحكي أن الخليفة المنصور، دعا أبو حنيفة ذات يوم إلى مجلسه بالقصر، وعندما التقيا أكرمه واستقبله مرحباً فرحاً بتلبية أبو حنيفة دعوته، وقد استمر مجلسهما طويلاً لأن المنصور أخذ يسأله عن كثير من المسائل المتعلقة بأمور الدين والدنيا وبعد انتهاء الزيارة، أراد المنصور أن يعبر عن تقديره للعلم الذي أتاه الله أبو حنيفة وعزة نفسه وعذوبة حديثه، فأخرج كيساً من النقود به 30 ألف درهم، ولكن الإمام أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه رفض هدية المنصور، وقال له بأسلوب جميل كعادته دائماً في التحدث إلى الآخرين: «يا أمير المؤمنين إني غريب في بغداد وليس لهذا المال موضع عندي وإني أخاف عليه فاحفظه لي في بيت المال حتى إذا احتجته طلبته منك».. فلبي له المنصور ما أراد وحقق له رغبته، ولكن لم يمهل القدر أبي حنيفة لكي يأخذ المال لأنه توفي بعد هذه الزيارة بفترة قصيرة.مذهب أبو حنيفة«إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم أجد فيها أخذت بقول أصحابه من شيء، وادع قول من شيء، ثم لا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم، والشعبي والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب فلي أن أجتهد كما اجتهدوا».. كانت هذه أصول مذهبه ونهجه في تناوله للأمور الفقهية، مؤسساً مدرسة فقهية تتلمذ فيها على يديه العديد من الفقهاء على مر العصور، الذين حملوا الراية من بعده.ومثلما كان ينفق على الفقراء والمساكين، كان أيضاً يرى ضرورة الاهتمام بطلبة العلم والدارسين، وهو يعتبر من الذين أول من نادى بتبني القادرين وذوي الأموال، للعلم ومساعدة المهتمين بالبحث سواء في العلوم الدينية أو الدنيوية، وخير دليل على ذلك أنه كان يقوم بتخصيص جزء من أرباح تجارته لكي ينفقها على أبنائه من طلاب العلم وتوفير كل ما يحتاجونه وكأنه يتكفل بهم أمام الله محبة وتقديرا لحبهم العلم والمعرفة، وكان يقول لهم «هذه أرباح بضائعكم أجراها الله لكم على يدي. والله ما أعطيتكم من مالي شيئاً وإنما هو فضل الله عليّ فيكم».وتعتبر المبادئ التي اعتنقها أبو حنيفة في مذهبه وسار عليها تلامذته، هي المبادئ نفسها أو الطريق الذي سار فيه الأئمة الأربعة وغيرهم من التابعين، من حيث الرجوع إلى القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة ومحاولة استنباط الأحكام الشرعية منها، إلا أن أبا حنيفة اختلف عنهم في عدم الوقوف أمام ظاهر النصوص فقط التي اشتمل عليها القرآن والسنة، وإنما كان يرى ضرورة تتبع المعنى الظاهري وإن لم يف بالحاجة إلى استنباط الأحكام الفقهية، ينتقل إلى مرحلة أخرى وهي النظرة المتعمقة والتدبر في معاني الكلمات المستترة ومحاولة تقصي حقائق الأمور.الفقه التقديريمن شدة ذكاء وفطنة الإمام أبو حنيفة التي وهبها الله له، أن اجتهاده في المسائل الفقهية لم يقف عند حد الظاهر والمطروح في فترة حياته أو اقتصارها على المسائل التي تفرض نفسها وتشغل عقول المسلمين في وقاتها، ولكنه كان يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك من حيث تتبع القضية الفقهية والعمل على التنبؤ بما سوف ينتج عنها من إشكاليات تالية والعمل على التعامل معها كما لو كانت موجودة بالفعل ثم تناولها وفقاً للمبادئ التي يقوم عليها مذهبه ونهجه في التفسي وإصدار ما يتناسب معها من أحكام والتي بلغت في مجملها حوالي 60 ألف مسألة تقديرية.وهذه الطريقة أطلق عليها علماء الفقه والدين ظا هرة «الفقه التقديري أو الإستباقي» انفرد بها أبو حنيفة بين الأئمة الأربعة.ولقوة منطقه وصحة آرائه قال عنه قال النضر بن شميل: «كان الناس نياماً عن الفقه حتى أيقظهم أبو حنيفة بما فتقه وبيّنه».
مقالة من أعداد وتأليف : خالد عوسي الأعظمي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق