الأربعاء، 13 نوفمبر 2013

الخاتـون أو المِــس بـيـــل : المرأة التى أنشأت دولة ونصَّبت ملكًا في العراق


( الصورة ، غلاف مجلة ألمانية، مس بيل ) 

مع مطلع القرن العشرين، أصبح واضحًا أن الإمبراطورية العثمانية لم تعد قادرة على البقاء طويلاً، فقد أنهكها الضعف، وعم فيها الفساد، وتفجرت داخلها المشاكل التى طالما حاولت إبعادها أو تأجيلها، وازداد تربص الطامعين والخصوم بها، يطوقونها من كل جانب ويحكمون عليها الحصار، لكى يرثوها ويتقاسموا تركتها، خاصة بعد أن تم الاتفاق بين هؤلاء على المناطق والنسب .الأقاليم العربية، والتى هى جزء من الإمبراطورية العثمانية، كانت أيضًا فى حالة مخاض أقرب إلى الغليان، فهى تحاول انتزاع استقلالها وحريتها من الإمبراطورية العجوز، وتحاول فى نفس الوقت أن تستقر، أو بالأحرى أن تكتسب تأييد الدول الأوروبية، لكن هذه الدول التى تتظاهر بالدعم والتأييد كانت لها نوايا مختلفة، إذ بالإضافة إلى كونها دولاً استعمارية لا تخفى، لذلك لم تهمل الأقطار العربية ولم تتركها. كانت لها بالمرصاد، وتنتظر اللحظة المناسبة للانقضاض عليها، ومن أجل ذلك استعدت مبكرًا واتفقت فيما بينها على كيفية تقاسم تركة الامبراطورية، وقد أوفدت لهذه الغاية أعدادًا كبيرة من رجالها وعيونها تحت تسميات متعددة إلى أقاليم الإمبراطورية، خاصة الأقطار العربية، تجوس خلالها وتدرس أوضاعها تمهيدًا لاختيار أفضل الطرق والوسائل من أجل وضع اليد عليها، والسيطرة على خيراتها، وإخضاع شعوبها.
من جملة الذين أوفدوا لهذه الغاية ومنذ وقت مبكر: المبشرون والباحثون عن الآثار، والدارسون للغات الشرقية، والمهتمون بالقبائل والعشائر والعلاقات الاجتماعية والأقليات. وكان عدد غير قليل من هؤلاء الموفدين مرتبطين بدوائر المخابرات ويعملون بتوجيهها.
ضمن الذين أوفدوا للمنطقة العربية فى بداية القرن العشرين، وكلفوا بمهمات ونشاطات تركت بصمات واضحة استمرت آثارها لفترة طويلة: لورنس وفيلبى والمس بيل.
وإذا كان لورنس قد نال الشهرة الأوسع بين الثلاثة، ونسبت إليه الأهمية الأكبر، وكتب الكثير عن شخصه ودوره، بما فى ذلك نشاطه العسكرى فى اقتحام المواقع ونسف الجسور والسكك الحديد أثناء الحرب العالمية الأولى، مما عجل فى سرعة انحسار نفوذ الإمبراطورية العثمانية عن بلدان المشرق العربى، وخاصة أن الأعمال ترافقت مع وعود وعهود قدمها لورنس باسم الإمبراطورية البريطانية باستقلال البلدان العربية ووحدة أراضيها حالما تنتهى الحرب بانتصار الحلفاء، فإن ما عزز صورة لورنس أكثر: الحياة الرومانسية التى عاشها، وما تخللها من مغامرات واعتقال وهروب، ثم تلك العزلة التى لجأ إليها فى أعقاب الحرب، بما فى ذلك تغيير اسمه وشخصيته، وأخيرًا النهاية الفاجعة التى انتهى إليها. لقد صور كل ذلك فى مجموعة من الأفلام والكتب صدرت عنه، وجعلت منه الأكثر شهرة، بحيث تركزت عليه وحده الأضواء، وعزيت إليه المآثر والخوارق فى الوقت الذى غُيبت أو اختصرت أدوار الآخرين. صحيح أن فيلبى لا يعتبر مغبونًا من حيث المعرفة والشهرة قياسًا للورنس، إذ عاش فترة طويلة، وكتب فى حقول شتى، كما لعب أدوارًا بالغة الأهمية، وإن ظل أكثرها طى الخفاء، خاصة فى بلدان الجزيرة العربية، ومع ذلك بقى أقل بريقًا من لورنس، واقتصرت المعرفة به على أوساط دون غيرها. الأقل شهرة بين الثلاثة، ولا تكاد تعرف خارج العراق، وفقط ضمن أوساط محدودة وضيقة، هى جير تروود بيل، أو مس بيل، حسب التسمية الأكثر تداولاً، أو الخاتون كما كان يطلق عليها عامة الناس. تعتبر المس بيل شخصية فذة ودورها بالغ الأهمية، إن لم يكن حاسمًا، فى الصيغة التى أخذتها المنطقة فى أعقاب الحرب العالمية الأولى من حيث العلاقة مع بريطانيا، ومن حيث نوعية الحكم الذى قام فى العراق. بدأت علاقة المس بيل بالمنطقة مع بداية القرن العشرين تقريبًا، وقد تزاملت ولورنس فى البحث عن الآثار، وكانت البداية فى كركميش، عند مدخل نهر الفرات إلى سورية، وظل الاثنان معًا فترة من الزمن، ثم افترقا كل إلى مكان وكل لمهمة، إذ أخذت المس بيل تجوب المنطقة من أقصاها إلى أقصاها بحجة البحث عن الآثار مرة، وبحجة دراسة لهجات البدو مرة، وبحجة الإلمام بأصول القبائل وبأنسابها ثالثة، إلى أن وصلت إلى أعماق الجزيرة العربية فى محاولة لاستمالة عدد من شيوخ البدو إلى جانب الحكومة البريطانية وتعبئة عواطف العرب ضد الأتراك، الأمر الذى أدى إلى احتجازها فى حائل من قبل ابن رشيد الذى كان مواليا للأتراك، إلى أن تم الإفراج عنها وترحيلها من الجزيرة العربية. أما لورنس فقد اختص بالهاشميين ووثق العلاقة معهم حتى نهاية الحرب. مغامرات خطرة ومتعددة اندفعت إليها مس بيل، وقد دفعت ثمنًا لقاء ذلك، فهى لم تهدأ ولم تتوقف عن التجوال والإقامة لفترات غير قصيرة فى بلدان المنطقة، مما ساعدها أكثر من قبل على إتقان العربية، وإلى التعرف على كثيرين ممن يعملون فى الحقل العام، إضافة إلى الإلمام أكثر بتفاصيل المنطقة ومشاكلها، إلى أن انتدبت للعمل فى العراق أثناء الحرب العالمية الأولى، وكان من حسن حظها أن تعمل مع واحد من أبرز صانعى خرائط المنطقة: السير بيرسى كوكس. من خلال وصولها إلى العراق، وبحكم ما تملك من معرفة وإمكانيات ومواهب، ونظرًا للموقع الذى احتلته، بدأت رحلتها الكبرى، وبدأت فى صناعة الممالك وتنصيب الملوك واختيار الوزراء وتقسيم النفوذ والأرزاق، بحيث لم تمر فترة إلا وأصبحت الخاتون التى تضفى على الأشخاص والأشياء شكلها وأهميتها، وأصبح التقرب إليها وكسب ثقتها ورضاها هدفًا لكثيرين من الساسة والمتطلعين إلى المناصب والنفوذ، أما من يعاديها أو يختلف معها، حتى لو كان من أبناء جلدتها والعاملين معها فى الإدارة، فإن مصيره النفى أو النقل، إن لم يكن أكثر من ذلك! من جملة الذين تعرضوا لانتقامها، بعد أن وقفوا فى وجهها: طالب النقيب ثم فيلبى. فالسيد طالب، زعيم البصرة غير المنازع، والذى كان طامحًا لاحتلال عرش العراق، باعتباره واحدًا من أبناء البلاد، وكان حظه فى الوصول إلى العرش لا يقل عن فيصل بن الحسين، لما يتمتع به من قوة وعلاقات تأييد، إضافة إلى دعم بعض رجال الإدارة الإنجليزية من العاملين فى إدارة الانتداب، لم يلبث هذا السياسى الطموح، بعد أن عبّر عن نواياه وهيأ نفسه بحكم الاتصالات التى كان يجريها بهدف تسلم العرش، أن تعرض لغضب المس بيل، خاصة أن الأخيرة أخذت تميل إلى تزكية فيصل، وتحاول إبعاد أو إضعاف المرشحين الآخرين. ورغم أن طالب النقيب كان يشغل مركزًا حكوميا رفيعًا فى الحكومة الانتقالية التى كان يرأسها عبد الرحمن النقيب، إلا أن غضب الخاتون عليه أدى إلى تجريده من منصبه أولاً، ثم إلى نفيه بعد ذلك للهند، وظل فى المنفى بضع سنين، جرى خلالها تنصيب فيصل ملكًا على العراق، وإقامة صيغة جديدة للحكم، بحيث أصبحت الدنيا حين عاد طالب من المنفى، بعد أن سمح له بذلك، مختلفة تمامًا عما تركها، وهكذا طواه النسيان وانتهى دون أن يخلف أثرًا. لقد حصل كل ذلك لأن المس بيل أرادت له هذا المصير! 


مقالة من تأليف: ( عبد الرحمن منيف )

ليست هناك تعليقات:

أحدث مقال

جسر ونهر الخر (الشْطَيِطْ)

  جسر ونهر الخر (الشْطَيِطْ) . الصورة : ملتقطة من جهة ساحة النسور ، وعلى اليسار (قصر الرحاب) وعلى اليمين (قصر الزهور) الذي لم يظهر . شيد الع...