إعدام
آخر وزير داخلية في العهد الملكي ( سعيد قزاز ) عام ١٩٥٩ م .
إن سعيد قزاز كان ينتمي عملياً إلى
النخبة المتنورة المعتدلة، وإنه تجاوز نوري السعيد في ذلك، إذ وقف ضد
الاقطاع عن قناعة، مما انعكس على العديد من مواقفه وإجراءاته التي تحولت
إلى حديث الناس، فلقد حاول وضع حد لأعمال عدد من كبار الاقطاعيين الذين
تمادوا في استغلالهم للناس .
باعتراف الجميع، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار،
إلا ما ندر، سجل سعيد قزاز لنفسه صفحة مشرفة خالدة أيام فيضان ربيع العام
1954، إنه بإيجاز شديد، أدى دوراً متميزاً لإنقاذ بغداد التاريخ والحضارة
من مصير مشؤوم توقعه أكثر الناس تفاؤلاً في تلك الأيام العصيبة.
لم يهتز سعيد قزاز لا في المعتقل، ولا أمام المحكمة العسكرية العليا الخاصة أثناء محاكمته، ولا في السجن بعد صدور حكم الموت بحقه، وتشهد له بذلك مداخلاته وردوده الجريئة، فضلاً عن كلمة دفاعه عن نفسه الطافحة بالكبرياء والاعتزاز بالنفس، والتي قرأها بثقة منقطعة النظير، على الرغم من مقاطعته عشرات المرات من رئيس المحكمة والمدعي العام والحضور في القاعة بأسلوب جارح للغاية. مع العلم أنه، وقبل أن يباشر بإلقائها، طلب من رئيس المحكمة أن يسمح له بأن يقرأ كلمته من دون أن يقاطعه أحد، قائلا ما نصه: «أعلنتم مراراً بأن حق الدفاع مقدس، فباسم هذه القدسية أرجو أن تسمحوا لي بقراءة دفاعي من دون أن يقاطعني أحد إلى أن أختتمه»، ولقد وعده رئيس المحكمة بذلك، لكنه لم يبرّ بوعده، فغالباً ما كان يقاطعه هو شخصياً، وكذلك المدعي العام والحضور بأسلوب فظّ للغاية، وبكلمات نابية من دون أن يؤثر ذلك قيد شعرة على معنوياته، إذ كان يواصل كلامه بالإباء والشموخ نفسه حال انتهاء مقاطعته.
فنّد القزاز قبل كل شيء ما ذكره المدعي العام في اليوم الأول من محاكمته، بأنه «ارتدى الملابس النسائية خوفاً من القتل»، وعدّ ذلك كذباً وافتراء وادعاء «لا نصيب له من الصحة»، ليسمو القزاز بذلك على نوري السعيد وغيره من أقطاب العهد الملكي ممن تنكّروا فعلاً بملابس نسائية وغيرها تخفياً عن أنظار الجماهير. تستوقف جوانب عدة مما ورد في كلمة سعيد قزاز النظر لما تنطوي عليه من أهمية تاريخية لا شك فيها. فإن قائد الثورة عبد الكريم قاسم التقى القزاز في مقر عمله بوزارة الدفاع بعد تسليمه لنفسه مباشرة، أي في اليوم التالي لانتصار الثورة، وعامله بلطف، متحدثاً إليه «بكلمات رقيقة»، مؤكداً بأنه يعده صديقا له، لكن الأوضاع تتطلب حجزه «لمدة من الزمن». يدفع ذلك إلى الاعتقاد بأن عبد الكريم قاسم لم يكن ينوي، في البداية على الأقل، تنفيذ حكم الموت بأحد، الأمر الذي أكده بنفسه مراراً، وفي مناسبات شتى كما ورد ذلك بوضوح في مذكرات اللواء المتقاعد فؤاد عارف القريب منه شخصياً، كذلك في مذكرات أحمد مختار بابان، وغيرهما. لكنه غيّر رأيه فيما بعد تحت ضغط الأحداث، وإصرار اليسار، وبعض المقربين منه ممن كانوا يحاولون أن يوحوا له، أغلب الظن، أن القزاز قصده هو بالذات من قوله بأنه سوف يصعد المشنقة ويرى تحت أقدامه أُناسا لا يستحقون الحياة. من بين العشرات ممن مثلوا أمام المحكمة العسكرية العليا الخاصة، كان سعيد قزاز المتهم الوحيد الذي عبّر عن رأيه الصريح في المحكمة، فقد قال عنها دون تردد أن موقفها كان «منذ البداية موقفاً غير حيادي»، وكيف أنه شخصياً تعرض إلى «شتى الإهانات لا من رئيس المحكمة والمدعي العام فحسب، بل حتى من أفراد لا توجد لهم أي صفة رسمية»، ثم قال ما نصه:- «إن هذا الأمر أقنعني أن مصيري قد تقرر قبل البدء بالمحاكمة، وما دامت الحياة مكتوبة، وما دام مصيري معلوماً، وما دمتُ لا أهابُ الموت والمشنقة، فإنني أدلي بهذه الإفادة لكي أوصل صوتي إلى خارج هذه القاعة، إلى إخواني العراقيين، لكي أؤكد لهم بأنني (هتافات بالمطالبة برأس المتهم)، خدمتهم بإخلاص وأمانة لمدة تزيد على ثلاثين سنة، وإنني إذا ارتكبت خطأ فإن حقي في الدفاع عن نفسي قد حرّم عليّ. وأتي بي إلى هذا المكان لأتلقى سيولاً من الشتائم والإهانات من قبل المسؤولين ومن قبل فئة معينة. أحضرت هنا خصيصا لهذا الغرض، بدلا من الرعاية التي يسبغها كل قضاء حيادي حتى على أشد الناس إجراماً، حتى اللحظة التي تثبت بها الجريمة، ويصدر فيها الحكم». واختتم سعيد قزاز كلمته التي رفعت محاكمته إلى مصاف أبرز وأهم المحاكمات التاريخية من قبيل محاكمة المفكر المبدئي توماس مور، بالقول نصاً:- «إنني تمكنت من تفنيد ادعاءات الشهود، ولم يثبت وجود حادثة معينة ارتكبت أنا فيها مخالفة قانونية. إنني أقف الآن وأرى الموت مني قاب قوسين أو أدنى، ولا ترهبني المشنقة، وعندما أصعد عليها سأرى الكثيرين ممن لا يستحقون الحياة تحت أقدامي، وأقف الآن بين يدي الله عز وجل لأقول كلمتي الأخيرة كمسلم لا أمل له إلا بعدالة خالقه العظيم، ولا إيمان له إلا بدينه الإسلامي الحنيف. أقف كعراقي خدم ثلاثاً وثلاثين سنة في تعزيز الوحدة العراقية المقدسة، أعلن على رؤوس الأشهاد بأنني فخور بما قدمت لوطني الحبيب من أعمال وخدمات، فخور بأنني كنت وزيراً فعالاً أعمل بوحي من ربي، وعقل في رأسي، وقلب في صدري». ومما يدعو للسخرية حقاً، بل وإلى الاشفاق أكثر من السخرية بكثير، ان مثل هذا الكلام البليغ، الذي لم يقل مثله، في قياس الظرف والمكان، حتى دانتون أيام الثورة الفرنسية الكبرى ، أجل ان مثل هذا الكلام أثار الضحك من الحضور في قاعة المحكمة كما هو مسجل نصاً في محضر جلسة ذلك اليوم.
لم يهتز سعيد قزاز لا في المعتقل، ولا أمام المحكمة العسكرية العليا الخاصة أثناء محاكمته، ولا في السجن بعد صدور حكم الموت بحقه، وتشهد له بذلك مداخلاته وردوده الجريئة، فضلاً عن كلمة دفاعه عن نفسه الطافحة بالكبرياء والاعتزاز بالنفس، والتي قرأها بثقة منقطعة النظير، على الرغم من مقاطعته عشرات المرات من رئيس المحكمة والمدعي العام والحضور في القاعة بأسلوب جارح للغاية. مع العلم أنه، وقبل أن يباشر بإلقائها، طلب من رئيس المحكمة أن يسمح له بأن يقرأ كلمته من دون أن يقاطعه أحد، قائلا ما نصه: «أعلنتم مراراً بأن حق الدفاع مقدس، فباسم هذه القدسية أرجو أن تسمحوا لي بقراءة دفاعي من دون أن يقاطعني أحد إلى أن أختتمه»، ولقد وعده رئيس المحكمة بذلك، لكنه لم يبرّ بوعده، فغالباً ما كان يقاطعه هو شخصياً، وكذلك المدعي العام والحضور بأسلوب فظّ للغاية، وبكلمات نابية من دون أن يؤثر ذلك قيد شعرة على معنوياته، إذ كان يواصل كلامه بالإباء والشموخ نفسه حال انتهاء مقاطعته.
فنّد القزاز قبل كل شيء ما ذكره المدعي العام في اليوم الأول من محاكمته، بأنه «ارتدى الملابس النسائية خوفاً من القتل»، وعدّ ذلك كذباً وافتراء وادعاء «لا نصيب له من الصحة»، ليسمو القزاز بذلك على نوري السعيد وغيره من أقطاب العهد الملكي ممن تنكّروا فعلاً بملابس نسائية وغيرها تخفياً عن أنظار الجماهير. تستوقف جوانب عدة مما ورد في كلمة سعيد قزاز النظر لما تنطوي عليه من أهمية تاريخية لا شك فيها. فإن قائد الثورة عبد الكريم قاسم التقى القزاز في مقر عمله بوزارة الدفاع بعد تسليمه لنفسه مباشرة، أي في اليوم التالي لانتصار الثورة، وعامله بلطف، متحدثاً إليه «بكلمات رقيقة»، مؤكداً بأنه يعده صديقا له، لكن الأوضاع تتطلب حجزه «لمدة من الزمن». يدفع ذلك إلى الاعتقاد بأن عبد الكريم قاسم لم يكن ينوي، في البداية على الأقل، تنفيذ حكم الموت بأحد، الأمر الذي أكده بنفسه مراراً، وفي مناسبات شتى كما ورد ذلك بوضوح في مذكرات اللواء المتقاعد فؤاد عارف القريب منه شخصياً، كذلك في مذكرات أحمد مختار بابان، وغيرهما. لكنه غيّر رأيه فيما بعد تحت ضغط الأحداث، وإصرار اليسار، وبعض المقربين منه ممن كانوا يحاولون أن يوحوا له، أغلب الظن، أن القزاز قصده هو بالذات من قوله بأنه سوف يصعد المشنقة ويرى تحت أقدامه أُناسا لا يستحقون الحياة. من بين العشرات ممن مثلوا أمام المحكمة العسكرية العليا الخاصة، كان سعيد قزاز المتهم الوحيد الذي عبّر عن رأيه الصريح في المحكمة، فقد قال عنها دون تردد أن موقفها كان «منذ البداية موقفاً غير حيادي»، وكيف أنه شخصياً تعرض إلى «شتى الإهانات لا من رئيس المحكمة والمدعي العام فحسب، بل حتى من أفراد لا توجد لهم أي صفة رسمية»، ثم قال ما نصه:- «إن هذا الأمر أقنعني أن مصيري قد تقرر قبل البدء بالمحاكمة، وما دامت الحياة مكتوبة، وما دام مصيري معلوماً، وما دمتُ لا أهابُ الموت والمشنقة، فإنني أدلي بهذه الإفادة لكي أوصل صوتي إلى خارج هذه القاعة، إلى إخواني العراقيين، لكي أؤكد لهم بأنني (هتافات بالمطالبة برأس المتهم)، خدمتهم بإخلاص وأمانة لمدة تزيد على ثلاثين سنة، وإنني إذا ارتكبت خطأ فإن حقي في الدفاع عن نفسي قد حرّم عليّ. وأتي بي إلى هذا المكان لأتلقى سيولاً من الشتائم والإهانات من قبل المسؤولين ومن قبل فئة معينة. أحضرت هنا خصيصا لهذا الغرض، بدلا من الرعاية التي يسبغها كل قضاء حيادي حتى على أشد الناس إجراماً، حتى اللحظة التي تثبت بها الجريمة، ويصدر فيها الحكم». واختتم سعيد قزاز كلمته التي رفعت محاكمته إلى مصاف أبرز وأهم المحاكمات التاريخية من قبيل محاكمة المفكر المبدئي توماس مور، بالقول نصاً:- «إنني تمكنت من تفنيد ادعاءات الشهود، ولم يثبت وجود حادثة معينة ارتكبت أنا فيها مخالفة قانونية. إنني أقف الآن وأرى الموت مني قاب قوسين أو أدنى، ولا ترهبني المشنقة، وعندما أصعد عليها سأرى الكثيرين ممن لا يستحقون الحياة تحت أقدامي، وأقف الآن بين يدي الله عز وجل لأقول كلمتي الأخيرة كمسلم لا أمل له إلا بعدالة خالقه العظيم، ولا إيمان له إلا بدينه الإسلامي الحنيف. أقف كعراقي خدم ثلاثاً وثلاثين سنة في تعزيز الوحدة العراقية المقدسة، أعلن على رؤوس الأشهاد بأنني فخور بما قدمت لوطني الحبيب من أعمال وخدمات، فخور بأنني كنت وزيراً فعالاً أعمل بوحي من ربي، وعقل في رأسي، وقلب في صدري». ومما يدعو للسخرية حقاً، بل وإلى الاشفاق أكثر من السخرية بكثير، ان مثل هذا الكلام البليغ، الذي لم يقل مثله، في قياس الظرف والمكان، حتى دانتون أيام الثورة الفرنسية الكبرى ، أجل ان مثل هذا الكلام أثار الضحك من الحضور في قاعة المحكمة كما هو مسجل نصاً في محضر جلسة ذلك اليوم.
المصدر: مقال ( القزاز أمام محكمة التاريخ ) جريدة الشرق الأوسط .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق