الصورة ( جلسة لرجال السياسة و الشعر و الموسيقى - نهاية العشرينات - الرصافي / الأول على اليمين وقوفا - نوري السعيد / الجالس تحت الرصافي ).
يعيش كبار الشعراء في هذه الأيام في بحبوحة ودلال بعد أن اخذت السلطات تستأجر قرائحهم. لكن الأمر لم يكن كذلك في ايام زمان ولا سيما اذا تمسك الشاعر بالوطنية والصدق. يعطينا الشاعر العراقي معروف الرصافي مثالاً لما أقول. كنت أراه جالساً بالغترة والعقال على حافة الطريق في الأعظمية لا يدري من أين سيأتيه عشاء يومه. فكثيراً ما توقف طعامه على ما يجود به الكرام من جيران واصحاب.
كانت مشكلته اصراره على رفض أي عطايا من الحكومة. بيد أن نوري السعيد كان يعطف عليه فعمد الى مساعدته خفية عن طريق الاصحاب ثم خطرت له فكرة. اعتادت مديرية التبغ العامة على تقنين السكائر اثناء الحرب العالمية الثانية. وكان مديرها من عشاق شعر الرصافي. أوعز له نوري السعيد بتخصيص حصة سخية للشاعر تزيد على حاجته، فعمد لبيع الفائض بربح مضاعف. وهكذا يمكن القول أن الرصافي عاش من المتاجرة في السوق السوداء، وهي بدون شك افضل من المتاجرة بالطائفية. ومع ذلك فإن ما كان يكسبه في بيع السكائر لم يكن كافياً حتى لسد ايجار البيت مما اضطره لشراء طعامه من سكر وشاي ودهن ونحو ذلك من دكان جمعة العطار بالنسيئة واصبح موضوع تسديد الدين للعطار سجلاً من الخصام والعراك. كثيرا ما اثخن العطار الدائن في كلامه وتأنيبه للشاعر. كان يقول له: «لو كان عندك عقل كان شفت لك مهنة بيها خير وتوكلك خبز ولا تشتغل بالشعر».
اخيراً قرر جمعة العطار اعتبار الشاعر الكبير معسراً عاجزاً عن التسديد وامتنع عن بيعه اي شيء. ما الذي يستطيع ان يرد به الشاعر على هذا الظلم والتعسف بغير ان ينفس عن عواطفه بالشعر. فكتب بيتين شاعا بين سكان الأعظمية، فقال:-
عجبت لأهل الأعظمية كيف لا
يرضون جيرة جمعة العطار
جاورته زمنا وكان جواره
في منتهى الانصاف شر جوار
كان المنتظر من هذا العطار، وقد خلده الشاعر في شعره ان يفتح له دكانه بعد ذلك ويقول له، تفضل وخذ كل ما تريد. ولكنه لم يفعل. ففي ذلك الزمن كان الناس عقلاء وحكماء ويعرفون أوادمهم. ولم يعتبروا الشعر وقائل الشعر شيئاً ذا بال. فبقي الرصافي يعتمد في معيشته على بيع السكائر وتلقي المساعدات من اصحابه المعجبين به وبشعره ووطنيته. ويقال ان مصدر الكثير منها كان نوري السعيد نفسه متخفياً وراء زملاء الشاعر. لم تكن حياة الشاعر فقط محفوفة بالمفارقات، بل وكذلك كانت وفاته. فعندما ادركته المنية في أواخر الاربعينات، تقدم المجنون هنا ايضاً بنفقات تابوته وتشييعه ودفنه. كان المنتظر ان يدفن بجوار الامام ابي حنيفة. ولكنهم وجدوا ان خصمه القديم جميل صدقي الزهاوي قد سبقه وأحتل الركن المجاور للامام. اتفق الجميع على ان دفنه قريباً من الزهادي سيحيي ذلك النزاع القديم بينهما فيعودان للعراك والمشاجرة ويستمران به الى يوم الحشر. فعبروا الشارع بجثمانه ودفنوه في الجانب الآخر من الطريق العام بعيداً عن الامام أبي حنيفة. وهكذا عاش مظلوماً ومات مظلوماً. ولكن المهم ان جمعة العطار لم يعترض طريقهم ويقول: قفوا! لا يدفن هذا الرجل حتى يسدد حساب السكر والشاي والصابون.
المصدر:أيام فاتت / خالد القشطيني .
جمع واعداد: خالد عوسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق