( الصورة ) من احتفالات المولد النبوي الشريف في جامع الامام ابي حنيفة / الاعظمية
يوم 11 ربيع الاول 1389 هـ ليلة المولد النبوي الشريف الموافق يوم الثلاثاء 27-5-1969م.
(مِن ْ ذكرياتي في مدينة الأعظمية )
تأليف: ثائر البياتي مـِن المهجر الأمريكي .
كنت أزور مدينة الأعظمية بين فترة وأخرى مع أهلي وأنا طفل صغير، خاصة مرقد الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان، بمناسبات مختلفة، كالمولد النبوي الشريف الذي يقام في كل عام، ومع كل زيارة كنا نزور مرقد الإمام موسى الكاظم في الجانب الثاني من نهر دجلة، فـَـتـَركت ْ تلك الزيارات بصماتها في ذاكرتي، حتى عشقت ُ الأعظمية وتأملت ُ ان أعيش َ فيها. تـَحـَقـَقت ْ أحلامي عندما بلغ َ عمري الثامنة عشرة، فإنتقلت من بعقوبة الى بغداد لأقيم في مدينة الأعظمية أربع سنوات من فترات حياتي، تـَذوقت ُ خلالها طعم السنين الحلوة، التي كانت فترة دراستي الجامعية في كلية العلوم من عام 1970 ولغاية عام 1974. سكنت كطالب في إحدى شقق منطقة رأس الحواش التي تبعد عن كلية العلوم بخطوات قليلة، وتتمركز في وسط زحام المدينة، حيث تحيط المطاعم والأسواق بمسكننا وتمتد المحلات التجارية بطول شارع الإمام الأعظم حتى ساحة عنتر بن شداد، وتغص بمختلف الناس، أكثرهم من شابات وشباب الكلية، ما أحلى غدوّهم ورواحهم الذي كان لا ينقطع طول النهار. أما ساحة عنتر، فإنها رمز مدينة الأعظمية، بالطبع بعد مسجد الإمام الأعظم، ما أجملها، حيث الخضرة الدائمة تغطي أرضها التي تناثرت في أطرافها الورود والزهور التي تبعث الرياحين في أنحائها. ما أحلى أمسيات شارع الإمام الأعظم، حيث كنا نتخطى على طوله، نأكل في مطاعمه الأكلات العراقية الشهية كالقوزي على التمن والفاصولية اليابسة وتبسي الباذنجان، وبعدها نحتسي الشاي في مقاهيها القديمة. أتذكر بشوق ٍ أمسيات تجوالنا على كورنيش الأعظمية الرائع، نتمتعُ بمشاهدة جمال نهر دجلة الخالد الذي يلتف ُ حول َ المدينة ِ بسحر ٍ وهدوء ٍ، يعانقها كعاشق ٍ غارق ٍ في بحر ٍ من اللذة ِ والمتعة. لا أنسى نكهة المدينة المتميزة في أيام أعراسها وبهجة أفراحها بالمولد النبوي الشريف من كل عام في يوم 12 ربيع الأول. يتهيأ عادة أهالي المدينة لإحتفالات المولد قبل أيام عديدة من حلوله، فتراهم يغسلون واجهات بيوتهم ويزينونها بمظاهر الزينة والفرح، ينظفون ويهيئون غرفها وحماماتها لإستقبال الوافدين من الإصدقاء والأحبة من المحافظات والمدن العراقية المختلفة، تـُضاء واجهة مسجد الإمام أبي حنيفة النعمان وساحته بالأضوية الكهربائية الملونة وَتـُزَّين المحلات التجارية والمباني بالأشرطة الزاهية، وترفع اللافتات المعبرة عن الألفة والتضامن بين الناس. في ليلة المولد، يلبس الناس ملابسهم الجديدة، كملابس ِ عيد عرفات، يضعون على واجهات بيوتهم وعلى إمتداد الشارع باقات الآس الخضراء والورود اليانعة، يفوح منها عبير الزهور، تـُجََّملـُها شموع الميلاد الموقدة التي تجعل من عتبات البيوت وشرفاتها حـُلـَة زاهية تسحرُ الناظرين وتبعثُ الفرحَ والسرور في نفوسهم، فبعض الناس يعملون ذلك إيفاء لتحقق مرادهم، والبعض الأخر يطلب مرادا لتتحق أمنيته، وآخرون يفعلون ذلك إبتهاجا بالذكرى العطرة، وتتبادل العوائل بالمناسبة، الحلويات وطبخات الزردة والحليب وغيرها، ويوزعونها على القادمين مجانا ً. بعد غروب الشمس من ليلة الميلاد، تطوفُ مجموعات متفرقة من الشباب في أزقة المدينة وشوارعها، يحملونَ شموع الفرح المتقدة في صواني تتلألأ بالأنوار فوق رؤسهم، ينقرون الدفوف مرددين أناشيد المولد النبوي وموشحاتها البهية، ينثرونَ الجكليت والمسقول على الناس المكتظين على جانبي الطريق، تقابلهم النسوة بالزغاريد والهلاهل وبالمزيد من نثر الجكليت تكتمل الفرحة، وينتهي مسارهم في ساحة مسجد الإمام الأعظم قبل حلول صلاة العشاء. وفي نفس الوقت، يغص شارع الإمام بحركة الناس وتجمعاتهم، تنقطع عنه حركة السيارات لكثرة المشاركين، ويزدحم جسر الأئمة بالمارة من الناس القادمين من الكاظمية وصوب الكرخ لحضور الإحتفالات، وتنتعش الأسواق ومطاعمها التي تقدم أفضل أكلاتها للضيوف الى ساعات متأخرة من الليل، وفي شارع الإمام يـُهـَيء الطعام السريع كالكباب والمعلاق وغيرها في عرباناتٍ متواضعة، تـُضيئها فوانيس اللوكسات، يـُباع ُ طبيخها الى المحتفلين. وتغصُ ساحة الإمام ومسجده ُ الداخلي بالناس الوافدين، يشاركون بإعداد غفيرة في صلاة العشاء ، لتقام مراسيم الحفل بعدها. يـُفتــَتـَحُ الحفل بآيات من القرآن، تليها كلمات الوفود الحاضرة على رأسها ممثل رئاسة الجمهورية، وتشارك في المناسبة فرق الكشافة بنشاطات متنوعة وَتـَعزفُ فرقة موسيقى الشرطة العراقية ألحانها الجميلة لتضيف للفرحة بهجة ً، وتستمر المناقب والموشحات النبوية وتـنقر الدفوف لساعات طويلة، يتخللها توزيع الحلوى، وتطول السهرة الى فجر اليوم الثاني. يـُعتـَبر إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف تخليدا ً لتراث شعبي، متوارث منذ مئات السنين، ينتظره الأصدقاء والأحبة بلهفة شديدة، بإعتباره فرصة لقاء مبارك، تـُعـَبرعن فرحة وتضامن الناس من كافة الطوائف والأثنيات من مختلف المدن العراقية. غادرتُ العراق في عام 1977 لغرض الدراسة وبأمل العودة للوطن، غير ان الظروف كانت أقوى من آمالي في تحقيق أحلامي في العودة، فطال غيابي وأنتظاري، ولكن بقى العراق وذكرياته قريبين من قلبي، وبقى حنيني اليه، كحنين الطفل لأمه، أترقب يوما ً قريبا ً لأعود الى أحضانه، لأستنشق هواءه العذب وأشرب ماءه الزلال وأكل طعامه اللذيد، فنذرتُ وأنا في هموم الغربة، أن أوقد َ شموع َ الفرح حال عودتي وتحقيق مرادي، ولكن مع شديد الأسف لم يتحقق كل ما كنتُ أتمناه. في عام 2004 عدت ُ من المهجر الأمريكي لزيارة العراق، بعد ثلاثين عاما ً قضيتها في الغربة، وحال الإنتهاء من زيارتي لأهلي وأقربائي وأصدقاء طفولتي في بعقوبة قررتُ زيارة بغداد، وخصوصا ً مدينة الأعظمية، لأهمية موقعها من قلبي ولإني حـَمـَلتُ معها أخر ذكريات أيامي في العراق قبل مغادرتي. كان إقتراب السيارة التي تقلنا من ساحة عنتر، قـُبـَيل َ الظهر، حيث أرسلت الشمس أشعتها الذهبية لتضيء كل مكان، الا ساحة عنتر، فكانت الشمسُ تكاد ان تغيب عنها، فماتت ْ أزهارها وجفت ْ ورودها، ولم ْ يعد ْ النسيم يهز أغصان أشجارها، ولا الفراشات تتطاير بين أورادها، وغدت ْ أرض الساحة سوداء، تهشمت ْ أطرافها وتكسرت ْ أرصفتها الحجرية من جراء حركة العربات العسكرية، وعلت ْ أكداس النفايات والأنقاض في وسطها. فقلت ُ: يا إلهي ، هل أنا في حلم ٍ مفزع ٍ، أم في ضياع؟ أما شارع الإمام الأعظم الذي يبدأ من ساحة عنتر ويشق طريقه الى وسط المدينة فلم ْ يـَعـد ْ كما ألفته، فـَتـَخللته ُ مطبات كثيرة وشقوق عميقة، خلا من زحام الناس والعربات التي عهدت ُ رؤيتها أيام كنت طالبا ً في كلية العلوم، ومع تقدم حركة السيارة ببطء، كنت أترقب ُ بلهفة شديدة مشاهدة بناية الكلية، طالما حلمت ُ التجول َ في أرجائها وبين ممرات مبانيها في أحلامي وانا في البعد، ولكن ما ان أقتربنا من البناية حتى وجدتها هي الأخرى مهملة، أبوابها موصدة، تـَبـَينَ انها تحولت الى مؤسسة بائسة أخرى، لا حياة فيها، فكلية العلوم التي شـَغـَلت ْ المنطقة وأنعشتها بروادها قد انتقلت الى الجادرية منذ عام 1982، كما أخبرني قريبي المرافق لي. كان مرورنا سريعاً من وسط المدينة، فلم نتمكن من الدخول في أزقتها وشوارعها الفرعية أو الوقوف أمام مشارف منازلها والإقتراب من ساكنيها الا لدقائق قليلة بحجة شراء بعض الحلوى من محل حلويات نـَّعوش، الذي كان لا زال يقدم خدماته للناس، من بيع الحلويات، فالمدينة متعبة، بعض من بيوتها ومبانيها مهدمة أو محروقة، أسواقها خالية من المنتوجات، فكأن العدوُ الدخيل اليها نفخ َ السـُم َ في أرجائها وَبـَثَّ الدخان في سمائها، فمات َ مـِن ْ أهلها مـَن ْ مات َ وهاجر مـَن ْ هاجر، وبقى فيها مـَن ْ بقى راقداً في مسكنه كرقود ِ أمواتها العظام في قبورهم التي كنا نزورها في كل مناسبة جميلة، نتبارك ُ بمآثرهم المجيدة ونفتخرُ بذكراهم العطرة. فتساءلت ُ وأنا أغادرُ الأعظمية، لأعود َ الى غربتي في المهجر منتظرا ً : متى ستشرق الشمس مـِن ْ جديد وتعود الحياة للمدينة وترجع الإبتسامة والفرحة في وجوه الناس؟ متى ستتفتح الزهور وينشر شذا الأقحوان رحيقه، ويعود البلبل لشدوه والحمام لهديله ليعود الناس لتجوالهم على ضفاف نهر دجلة وكورنيش الأعظمية؟ متى ستكون إحتفالات المولد النبوي كرنفالات فرحة وبهجة ليس في الأعظمية فقط، بل في سائر عموم العراق؟ فالأعظمية حقا ً عظيمة بأكابر رجالها وعزة نسائها وأصيلة بعمق تاريخها، ورائعة بجمال معالمها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق