الأحد، 27 أكتوبر 2013

راسبوتين...الشيطان الراهب



غريغوري يافيموفيتش راسبوتين (22 يناير 1869 - 16 ديسمبر 1916)، راهب روسي. ولد في قرية بوكروفسكوي الريفية الواقعة في سيبريا، بعيدا ً عن صالونات العائلة الملكية البراقة في سانت رسبرغ.

نشأته :-
ظهرت لدى راسبوتين في طفولته رؤى مستمرة عن القوى الإلهية وقدرات الشفاء الخارقة، إذ كان باستطاعته مثلا ً أن يبرئ حصانا ً بمجرد لمسه، لكنه أكتسب في فترة مراهقته أسم راسبوتين (أي الفاجر) بسبب علاقاته الفاضحة. وحين بلغ راسبوتين الثلاثين من عمره كان زوجا ً وأبا ً لأربعة أطفال، إلا أن ولعه بالشراب وسرقة الجياد كان دائما ً ما يتناقض وأصول الحياة العائلية التقليدية، وكان حادث اتهامه ذات مرة بسرقة حصان نقطة تحول في حياته هرب على أثرها من القرية ولاذ بأحد الأديرة حيث اتخذ صفة الرهبانية التي لازمته بعد ذلك طيلة حياته. ومع تأثره بتجاربه الروحانية رحل راسبوتين عن قريته ليصبح مسافرا ً جوالا ً في أنحاء روسيا وخارجها، وخلال هذه الرحلات لم يغتسل أو يبدل ملابسه لفترات بلغت عدة أشهر وكان يرتدي قيودا ً حديدية زادت من المعاناة، وقد شملت هذه الرحلات الدينية الشاقة رحلة إلى جبل آثوس باليونان وساعدته على أكتساب أنصار ذوي نفوذ مثل " هيرموجن، أسقف ساراتوي". وأثناء فترة تجواله، أصبح راسبوتين تحت تأثير طائفة متطرفة غير شرعية تعرف باسم خاليستي، وتنزع إلى الجلد والممارسات الشاذة، ولعل سمة الجمع الشاذ بين الورع والأفعال الشاذة غير الشرعية وخاصة الفاضح منها هي التي شكلت القاعدة التي ارتكزت عليها ممارسات راسبوتين الدينية فيما بعد، فلم تفارقه أبدا فكرة أن الفرد يمكن أن يصبح أكثر قربا ً من الله إذا أرتكب عمدا ذنبا ً شهوانيا ً ثم تاب توبة نصوح.
 

 نفوذ وشهرة :-
بحلول عام 1903م وصل إلى سان بطرسبرغ كلاما عن قوى صوفية قادمة من سيبريا ذات عيون وحشية مضيئة ونظرة مجنونة، وبدا أن راسبوتين كان قد حدد موعدا لدخوله المجتمع الراقي في الوقت المناسب، وقد ساهم في ذلك أن الطبقة الأرستقراطية كانت مولعة بمسائل السحر والتنجيم وكانت عمليات تحضير الأرواح أمرا مألوفا. وفي عام 1905م قابل راسبوتين عالم لاهوت كان يعمل رئيسا لأكاديمية دينية وكاهن اعتراف للإمبراطورة، إلكسندرا فيودوروفونا، وقدم للبلاط من خلال تزكية مسئولي الكنيسة العليا وراهبتان سوداوتان الشعر كانتا تعرفان باسم الغرابان كانتا فعالتان بإمداد البلاط بالصوفيين، وكان للأسرة الملكية الروسية في الماضي تقليد استقبال الرجال المقدسين من أجل مناشدة تدخلهم بعدة طرق، خاصة تلك التي تؤمن مولد ذكر يرث عرش روسيا.


حبيب ملكة روسيا :-
سجل القيصر نيقولا الثاني في مذكراته اللقاء الأول براسبوتين في 14 نوفمبر عام 1905م قائلا "تعرفنا على غريغوري، رجل الرب، من أبراشية توبولساك"، وبنجاحه المعهود مع النساء ترك راسبوتين انطباعا عميقا لدى الإمبراطورة ألكسندرا فيوديوروفونا، إذ اقتنعت تماما بقدراته حين استطاع بإعجاز أن يخفف من المعاناة والنزيف الذي أصاب أليكسيس ***وليافبتش، وريث عرش روسيا المريض بسيلان الدم قد ورثه عن أمة حفيدة فيكتوريا ملكة بريطانيا العظمي، والمرض الذي عاني منه ولي العهد ومات به من قبل أخ الملكة واثنان من أبناء الاخوة وخالها، يبدأ بنزيف تحت الجلد ثم يظهر ورم يتصلب يتبعه شلل مصحوبا بآلام شديدة، ولم يمضي وقت طويل منذ أثبت راسبوتين قوته الخارقة للأكسندرا حتى أصبح مستشارها الشخصي المؤتمن على أسرارها، يزورها في القصر في موعد أسبوعي محدد.
وتقول إحدى النظريات المتعلقة بقدرة راسبوتين على وقف النزيف الذي أصيب به أليكسيس، ابن القيصر، بأنه استخدم التنويم المغناطيسي لإبطاء النبض، ومن ثم تقليل القوة التي تدفع الدم إلى الدوران في جسده.
حياة غير مقدسة :-
وبذيوع شهرة راسبوتين نجح في جذب المزيد من الأنصار من جميع الطوائف الاجتماعية، وقد تطوع هؤلاء البلهاء كما كان يطلق عليهم "لارتكاب الخطيئة من أجل التطهر من آثامهم" مع رجل بدوا عاجزين أمام جاذبيته.
تحت المراقبة :-
بزغ نجم الراهب راسبوتين في سان بطرسبرغ، وبالمثل زاد عدد أعدائه، إذ رآه كثيرون خارج حدود البلاط يحيا حياة السكر والعربدة وغالبا ما يكون بصحبة العاهرات، وحين علم مسؤولون سياسيون كبار بهذه الشائعات كلفوا شرطة سرية بتعقبه.


تحالف الأعداء :-
وكان اثنين من أنصار راسبوتين السابقين هما راهب يميني متعصب يدعى ليودور، وهيرموجان أسقف ساراتوف، على اقتناع تام بأن راسبوتين ما هو إلا تجسيدا للشيطان، وفي عام 1911م استدرجاه إلى طابق سفلي حيث اتهماه باستخدام قوى الشيطان للقيام بمعجزاته وضرباه بصليب، وأبلغ راسبوتين الإمبراطورة بالواقعة وادعى أنهما حاولا قتله ومن ثم تم نفي الرجلين، وفي السابع والعشرين من يونيو عام 1914م عاد راسبوتين إلى قريته في سيبريا. وفي اليوم التالي تلقى برقية وبينما كان في طريقه لإرسال الرد هاجمته عاهرة سابقة مشوهة مجدوعة الأنف تدعى شيونيا جاسيايا بوحشية مستخدمة سكينا، دفعها ليودور لقتل راسبوتين.


الموت وإبليس مدينة الشيطان :-
وبينما كان راسبوتين يتعافى في المستشفى من الطعنات التي أوصى بها ليودور كان القيصر نيقولا يحشد قواته استعدادا للحرب العالمية الأولى التي جلبت كارثة على وطنه، حيث فقد أكثر من أربع ملايين روسي أرواحهم، وبالعودة إلى سان بطرسبرغ ومع غياب القيصر استطاع راسبوتين اكتساب المزيد والمزيد من القوى السياسية وساهم في تعيين وطرد الوزراء.


وبنفوذه الطاغي على قرارات القيصر السياسية زاد اللوم الموجه للراهب السيبيري على المشاكل التي عانت منها البلاد حتى أن مدينة سان بطرسبرغ أصبحت تعرف باسم " مدينة إبليس".
نبؤته بالقتل :-
وفي ديسمبر عام 1916م كتب راسبوتين خطابا ً للقيصر يتنبأ فيه بقتله، وعن قتلته المحتملين كتب يقول" إذا قتلني أقاربك فلن يبقى أي فرد من عائلتك حيا لأكثر من عامين، وتستطيع أن تقول أي من أولادك أو أقاربك، فسوف يقتلهم الشعب الروسي. سأُقتل، لم يعد لي وجود في هذه الحياة. صلي أرجوك، صلي، وكن قويا، وفكر في عائلتك المصونة". وبعد ثلاثة وعشرين يوم فقط قتل اثنان من أقارب القيصر نيقولا الثاني راسبوتين، وبعد مرور تسعة عشر شهرا على مقتله أعدم قيصر روسيا وعائلته بأيدي الثوار البلشفيين، فقد تزامن مع نبوءته أن حضر راسبوتين لمقابلة الأمير فيليكس يوسوبوي الزوج لإيرينا ابنة أخ القيصر، وأراد يوسوبوي قتل راسبوتين شأنه شأن ابنا عم القيصر الغراندوق ديميرتي بافالويتش والسياسي فلاديمير بيرشيكفيتش وتآمر الثلاثة معا على قتل راسبوتين والحفاظ على سلالة العائلة المالكة. وفي ليلة السادس عشر من ديسمبر عام 1916م دعا يوسوبوي راسبوتين إلى قصر مويكا بحجة أن إيرينا التي يشاع عنها أنها أجمل امرأة في سان بطرسبرغ تريد مقابلته، وبينما كان ينتظر ظهورها قدم رجل لراسبوتين كعك وخمر مدسوس بهما سما مميتا وقد أصيب المتآمر بالهلع لما بدا من حصانة راسبوتين ضد السم، ولم يستطع يوسوبوي السيطرة على نفسه فنزع مسدسه وأطلق النيران على راسبوتين وبصعوبة بالغة ترنح راسبوتين خارجا إلى ساحة القصر حيث كان بفالوفيتش وبيرشيكفيتش يستعدان للمغادرة، فأطلق يرشيكفيتش النيران ثانية على راسبوتين المترنح وضرباه بهراوة وقيداه قبل أن يلقيا بجسده في نهر نيفا. وعندما تم العثور على الجثة بعد يومين دل تشريحها الذي كشف عن وجود مياه في الرئتين أن راسبوتين كان ما زال حيا عندما ألقى به في النهر، وقد فسر بعض العلماء في محاولة لفهم عدم تأثرة بالسم بإصابته بنقصان الحمض المعوي ويقول البعض ان معاقرته للخمر ابطلت مفعول السم، ولكن انتشرت الاشاعات انه كان يتعاطى كميات ضئيلة من السم يوميا ليحمي نفسه في حالة ان حاول أحدا قتله. وكانت نهاية راسبوتين علامة على بداية النهاية للقيصر نيقولا والإمبراطورة ألكساندرا، فبعد عشر أسابيع فقط من وفاته أطاحت الثورة الروسية التي اندلعت عام 1917م بأخر جيل من سلالة رومانوي، وبعد مرور أقل من عامين قامت فرقة معزولة بإعدام القيصر نيقولا وعائلته بأكملها في سيبريا، وقد قام الناس خلال ثورة فبراير عام 1917م بإخراج جثة راسبوتين وحرقها وبعد حوالي قرن، وما زال السؤال مطروحا هل كان راسبوتين معجزة حقيقية، أم نصاب بارع؟ سواء كان فلاح غامض، أم شيطان في جسد إنسان، فما زال إرث راسبوتين الأسود موجودا ً حتى الآن.

ليست هناك تعليقات:

أحدث مقال

جسر ونهر الخر (الشْطَيِطْ)

  جسر ونهر الخر (الشْطَيِطْ) . الصورة : ملتقطة من جهة ساحة النسور ، وعلى اليسار (قصر الرحاب) وعلى اليمين (قصر الزهور) الذي لم يظهر . شيد الع...