لعب اليهود دورا كبيرا في تاريخ العراق وبرزت منهم شخصيات لامعة في العهد الملكي. من الكلمات الشائعة في لغة العراقيين قولنا «يحسقلها» أو «يعني شنو؟ تريد تحسقلها علي؟» نقصد بها التشدد في حسابها ومحاسبة الشخص. نقولها دون أن نعرف أصلها ومصدرها. تعود هذه الكلمة أساسا إلى السيد ساسون حسقيل، الاقتصادي والرجل المالي الكبير الذي تولى وزارة المالية خمس مرات في أوائل تأسيس المملكة العراقية. لم يكن رجلا ضليعا فقط في الأمور المالية وإنما كان يتقن كذلك عدة لغات محلية وعدة لغات أوروبية. لم يكن للعراق المعاصر أية خبرة في الشؤون المالية أو تنظيم حسابات الدولة وميزانيتها. كان مجرد جزء من الإمبراطورية العثمانية يدير أحواله المالية موظفون أتراك من اسطنبول. نعم كان بين العراقيين ضباط ومديرون وقضاة ولكن لم يكن بينهم أي رجل له أي خبرة في تنظيم مالية دولة. بيد أن الله عز وجل قدر أن يكون بينهم هذا الرجل الموسوي الضليع في الشؤون المالية. وعندما تأسست أول وزارة في تاريخ العراق تحت رئاسة عبد الرحمن النقيب عام 1921، أشار عليهم الإنجليز بأن يستعينوا بساسون حسقيل في تنظيم مالية الدولة الناشئة. وهو ما كان. أسندوا إليه وزارة المالية. ورغم سقوط حكومة النقيب، فقد ظلت الحكومات التالية تكلفه بهذه المهمة. اشتهر حسقيل ساسون بتشدده في محاسبة الموظفين والمسؤولين، بل وحتى الملك فيصل الأول والحكومة البريطانية. لا يترك لهم ثغرة يسيئون فيها لمالية البلاد. ومن هنا راح الجمهور يقول ويردد كلمة «يحسقلها»، أي يتشدد في محاسبتها. شاعت عن ذلك حكايات طريفة كثيرة، ومنها أنه لاحظ أن البلاط الملكي حاول تغطية العجز في ميزانيته بنقل مبالغ من فصل معين من الميزانية العامة إلى واردات البلاط. انتبه إلى ذلك فأصدر أمره بمنع هذا النقل بما أثار الملك فيصل والبلاط الملكي. ولكن ساسون حسقيل أصر على رأيه ومنع هذا التحويل الذي اعتبره مخالفا للقانون ومصلحة الدولة. ولا شك أن من أشهر رواياته وأهمها كان ما جرى بينه وبين شركة نفط بريطانية؛ عندما أصر على الشركة البريطانية المسجلة عندئذ باسم شركة النفط العراقية التركية بدفع حصة العراق بالذهب، بالشلن الذهبي، بدلا من الجنيه الإنجليزي الورقي. استسخفوا طلبه عندئذ فقد كان الجنيه الإسترليني أقوى عملة في العالم. سخروا منه وضحكوا عليه واتهموه بأنه رجل قديم الطراز. هز رأسه قائلا: «نعم هكذا أنا. سامحوني، رجل متحجر الفكر ومن بقايا العهد العثماني. رجاء ادفعوا لنا بالذهب». ضحكوا عليه ولكنهم طيبوا خاطره فوقعوا على الدفع بالذهب. سرعان ما ثبت أن ساسون حسقيل كان أعلم منهم جميعا، فبعد سنوات قليلة تدهور الجنيه الإسترليني بالنسبة للذهب، ولكن شركة النفط لم تجد مفرا من الدفع للعراق بالشلن الذهبي. كانت النتيجة أن ظل العراق يكسب ملايين إضافية بسبب تفوق الذهب على العملة الورقية الإنجليزية. لا عجب أن أخذ البريطانيون يتضايقون من وجود ساسون حسقيل على رأس وزارة المالية في كل مفاوضاتهم معها. فسعوا إلى التخلص منه حتى تمكنوا من ذلك بعد سقوط حكومة ياسين الهاشمي. وكان من أفكاره البارعة أن اشترط على شركة النفط أن تعطي العراق حصة من أسهمها، بما مكن العراقيين من رهن هذه الحصة بما أعطاها أموالا كانت في أمس الحاجة إليها. لا نتصور اليوم كم كان العراق دولة فقيرة عندئذ ركبته الديون والالتزامات من كل جانب. بيد أن ساسون حسقيل قام بخطوات بارعة في تحسين الوضع المالي للبلاد. لم يتوقف دوره فقط في تنظيم المالية وإنما عمل بجد ونشاط في تشجيع الإنتاج الوطني ولا سيما في قطاع الزراعة وتصدير المنتجات الزراعية العراقية للخارج لكسب شيء من العملة الأجنبية. وبالطبع، وكوزير للمالية، ركز على تنظيم الضرائب والمكوس وحسّن طرق استحصالها بما يضمن للدولة ما تحتاجه من واردات. ومن ذلك أن الحكومة اضطرت حتى إلى فرض ضريبة على كل من يعبر الجسر. وكانت أيام، أيام عسر، ولكن أيام خير وبناء لعراق الخير والخيرات .
مقالة للكاتب: خالد القشطيني .
جمع واعداد: خالد عوسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق